والجواب: أن يقال له: هب أن الأمر كما ذكرت، فَلِمَ لا يصدق الله القول ويبين أنهم إنما قالوا ذلك نفاقاً ورياءً وإظهاراً لموافقة المحقين كما في آية المنافقين حيث قال تعالى بعد حكايته عن المنافقين: ?إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ? ثم أتى بالجملة الثالثة بتكذيبهم فيما أظهروه من القول: ? إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ? وفي قولهم: نشهد. وفي اعتقادهم خلاف ذلك لأنه تعالى حكى في الجملة الأولى مقال المنافقين، ثم أردفها بالجملة الثانية مؤكدة بأن واللام مبادرة إلى تقريب مقتضى اللفظ ثم أتى بالثالثة مؤكدة بأن واللام وحذف متعلق الكذب ليشمل الثلاثة الأطراف المذكورة وغيرها، ولو حذفت الجملة المتوسطة لاقتضى الكلام خلاف المعلوم من نبوته صلى الله عليه وآله وسلم لأنه يلزم تكذيبهم أنه رسول الله وتصديقهم فيما اعتقدوه من نفي نبوته، ولما سجل عليهم بالنفاق وسماهم به ولا كذلك ذكر في آيتي المشيئة المذكورتين، بل فيهما ما يدل على أن الكلام مسوق ومحكي عنهم على حسب ظاهره كما يعلم من العشرة الأوجه المذكورة أو بعضها مع أن البيان والتأكيد فيهما لو كان الأمر كما ذكره المخالف أحوج منهما في آيات المنافقين، لأن نبوته صلى الله عليه وآله وسلم معلومة من الدين ضرورة، وكونهم إنما قالوا ذلك نفاقاً وكذباً قد علم من تسميتهم منافقين لكن أتى بالجملة المتوسطة والتأكيدات البالغة، لئلا يكون لأهل الزيغ طريق إلى القدح في القرآن، فكان بيان معتقد المشركين لو لم يكن ما يفيده ظاهر آيتي المشيئة وتكذيبهم في إظهارهم خلاف ما اعتقدوه من الحق، وتصديق ما يعطيه اللفظ أنه تعالى يشاء شركهم أولى وأحوج بالبيان والتصديق سيما فيما يوهم ترك البيان الخطأ، وهذا واضح فتأمل.(1/546)
وبعد فأي غرض للمشركين في إظهار هذا القول رياءً ونفاقاً وقد كانوا أعظم الناس مخالفة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم جدالاً وشقاقاً، وكانوا يجاهرونه بالكفر صراحاً والمحاربة والمعاندة غدواً وصباحاً، بخلاف المنافقين فقد كانوا يظهرون الإسلام وينافقون بالتظاهر أنهم يدينون بنبوة سيد الأنام، فكشف الله تعالى منطوى قلوبهم من التكذيب بالنبوة والرسالة لئلا يغتر بهم من ليس له بدغلهم اختيار.
وبعد فلو كان الأمر كما ذكرت لتناقضت آيات الكتاب العزيز، لأن ما قدمناه من الآيات صرائح في أنه تعالى يكره المعاصي ولا يحتمل التأويل في شيء منها.
وبعد فلو كان الأمر كما ذكرت وذهبت إليه من أن الله تعالى يشاء شرك المشركين وتحريمهم ما حرموا لرفع قضية العقل أن إرادة القبيح قبيحة أو للزم الحكم بحسن الشرك وتحريم ما لم يحرمه الله تعالى، وكل قول يؤدي إلى رفع قضية العقل أو تحسين الشرك وتحريم ما لم يحرمه الله تعالى فلا شك في بطلانه، فكيف يجوز حمل الآيات الكريمة عليه إذا لكانت هزواً ولعباً ولغواً وكذباً!
وبعد فلو كان الأمر كما ذكرت لما ساغ مجيء الآية على وجه النقيض للمعنى الحق من غير بيان لأن ذلك إلغاز وتعمية والله يتعالى عن ذلك.
فإن قيل: وردت على ذلك الوجه ولم يذكر فيها ما يدل على البيان ليلحق بالمتشابه ووروده جائز للامتحان والابتلاء.
قلنا: إذاً فقد سقط التأويل المدعى، لأن عند الخصم أن المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله دون الراسخين فلا يصح لهم تأويل تلك الآيتين بما ذكروه، فأما أن يأخذوا بظاهرهما فهو ما ذهبنا إليه، وأما أن لا فقد ألغوهما وأخلوهما عن معنى يقصد من الخطاب فيلحقهما ذلك بالهذر ويكونان هزواً ولعباً!(1/547)
إلزامات على قول المجبرة: إن الله تعالى يريد القبائح ويشاء الفضائح
إلزاماتٌ على قولهم: إن الله تعالى يريد القبائح ويشاء الفضائح.
يقال لهم: إذا كان الله تعالى يريد من الكافر الكفر، فأنتم ماذا تريدون منه؟ إن قلتم: نريد له ما أراده الله له. قيل: فقد أردتم الكفر له، ومن أراد الكفر من أي شخص فهو كافر، وإن قلتم: نريد له الإيمان. قيل: فأيهما أحسن هل ما أراد الله له أو ما أردتم له؟ إن قلتم: ما أراد الله له. قيل: إذاً فالكفر خير من الإيمان فهو أولى بأن يفعله، وإن قلتم: ما أردنا له. قيل: فأنتم إذاً أحسن اختياراً من الله تعالى فأنتم أولى بالحمد والشكر.
حكي أن مجبراً داواه نصراني من وجع بعينه فبرئ فقال المجبر: قد وجب لك علي حق فأنا أريد أن أنصحك. قال: بماذا؟ قال: بأن تُسْلم، وكأن النصراني كان عارفاً بمذهب المجبر فقال: أتريد نصيحتي وإسلامي؟ قال: نعم. قال: والله يريد نصيحتي وإسلامي ؟ قال: لا. قال: فأيكما أحق بالإجابة؟ فانقطع المجبر.
ويقال: إذا كان الله تعالى يريد الكفر وجميع المعاصي ممن فعلها وكان الشيطان أيضاً كذلك وكان الأنبياء عليهم السلام والمؤمنون يكرهون ذلك ولا يريدونه وكانوا ينهون عنه ويأمرون بالإيمان ويقاتلون عليه فإبليس أحسن حالاً منهم لموافقته مراد الله تعالى وعدم مشاققته، وهم أحسن حالاً وأولى باللعنة لمخالفتهم لمراد الله ومشاققته تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وحاشا أنبيائه والمؤمنين عما يقوله الظالمون.
ويقال: ما تقولون في رجل حلف بطلاق امرأته ليفعلن ما يريده الله منه ففعل معصية أَبَرَّت يمينه، أحَلَّت له امرأته أم لا ؟ إن قيل: نعم. خالفوا المعلوم من الدين ضرورة. وإن قيل: لا. بطل مذهبهم.(1/548)
ويقال: إذا كان الله تعالى يريد ما وقع من قتل أنبيائه وأوليائه وتكذيبهم وسبهم، فالفاعل لذلك فاعل لما أراده الله تعالى والخير فيما أراده، فكان قتل الأنبياء والأولياء خير يستحق بمقابله الثناء والمدح والإثابة.
شبهتهم من العقل:
قالوا: لو أراد الله تعالى من الكافر الإيمان ومن الفاسق الطاعات، ثم صدر منهما خلاف مراده تعالى لكان ذلك تعجيزاً له تعالى؟
والجواب: إنما يكون ذلك تعجيزاً له تعالى حيث أراد منهم ذلك على جهة القسر لهم والمغالبة وإجبارهم على ذلك، فأما إذا أراد ذلك منهم على وجه الاختيار منهم وترك قسره لهم وإجبارهم عليه فلا يكون تعجيزاً.
قالوا: لو أراد الله تعالى ما لا يكون من الطاعات والإيمان لكان ذلك تمنياً، والله تعالى منزه عن ذلك.
قلنا: ومن أين لكم أن إرادة ما لا يكون تمنياً أليس أن التمني من قبيل الكلام المَقْرُون بِلَيْتَ حتى لو لم يكن ثمة كلام مقرون بها لم يكن تمنياً، كما أنه إذا لم يكن كلاماً مقروناً بحرف القسم لم يكن قسماً والإرادة من أفعال القلوب، فإذا وقع تمن لشيء لزم إرادته ولا عكس.
وبعد فإن عندكم أن إرادة الله تعالى قديمة في جميع ما تعلقت به، فإذا كان الله تعالى يريد الواقعات في الأزل فهو متمن لها فما أجبتم به فهو جوابنا.
وبعد فإن التمني لا يكون إلا فيما فيه نفع أو دفع ضرر عن المتمني والله تعالى منزه عن ذلك، فلا تكون إرادته ما لم يقع من الطاعات والإيمان تمنياً لاختلال أحد أجزاء ماهية التمني أو شرطه.
وبعد فإن التمني إنما يكون فيما يتعذر أو يتعسر حصوله، فأما ما كان من المقدورات القريبة الانتوال بلا مانع ولا مشقة فلا يصح تمنيها سيما ممن هو أقدر عليها من غيره وهو على كل شيء قدير، فإذا لم يفعلها دل على غنائه عنها، وإذا أمر بها دل الأمر على أنه يريدها من دون أن يكون متمنياً لها.
قالوا: وقوع ما علم الله أنه لا يكون مستحيل والله تعالى لا يريد المستحيل.(1/549)
قلنا: ومن سلم لكم أن وقوع ما علم الله أنه لا يكون مستحيل أوليس أن الله تعالى عالم أنه لا يقيم القيامة الآن وهو قادر على إقامتها الآن وليس ذلك بمستحيل، وكذلك سائر ما علم أنه لا يفعله من الأفعال الممكنة في ذاتها كإرسال نبي بعد محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإنزال كتاب وشريعة بعده صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما المستحيل هو ما استحال لذاته كالجمع بين الضدين والنقيضين، أو ما فقدت القدرة عليه كخلقنا الأجسام والأعراض الضروريات، أو ما وجد فيه المانع الحسي كجري المقيد بالحديد مع الخيل، وإنما قيدنا المانع بالحسي ليخرج المانع العقلي كقبح الكذب والظلم فإنه مانع من صدورهما من الحكيم وليس صدورهما مستحيلاً حتى يخرجا عن كونه تعالى قادراً عليهما، وكوجود الحكمة في أحد الحكمين كما مثل به في الآيتين الآتي ذكرهما من تأخير العذاب والقضاء إلى يوم الفصل، وكوجود الصارف في أحد الحكمين أيضاً وهو المفسدة كقوله تعالى: ?وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ?، وليخرج المانع الشرعي كالحيض، فإنه مانع من صحة الصلاة وليس وقوعها في الحائض محالاً، فإن هذه الوجوه المذكورة كلها لا تلحق الفعل بالمستحيل وإنما يجب معها تركه.
وبعد فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد من أبي جهل وأبي لهب وسائر الكفار الإيمان ومعلوم عدم وقوع ذلك من أبي جهل وأبي لهب وغيرهما من الكفار، فيلزمهم أنه صلى الله عليه وآله وسلم، قد أراد المستحيل وذلك ذم له صلى الله عليه وآله وسلم، لأن من أراد المستحيل لا يعد من العقلاء.(1/550)