الضرب الثالث: ما لا يحكم العقل فيه بلزوم فعل ولا ترك، وإنما يحكم فيه حكماً عاماً لجميع مفرداته، وهو لزوم امتثال ما أمر به أو نهى عنه المالك المنعم، وإباحة ما سكت عنه وهو جميع الأفعال الخارجة عن الضربين الأولين، وعما لا يتما إلاَّ به، وهذا الضرب هو الذي ينقسم إلى الأحكام الشرعية ويصح طُرُوُّ النسخ عليه بحسب المصالح ولا يهتدي العقل فيه إلى حكم معين أو مصلحة أو مفسدة معينة إلا بواسطة الرسل صلوات الله عليهم، فما أمروا به علم وجوبه وإن المصلحة في فعله والمفسدة في تركه، وما أرشدوا إلى فعله من دون وعيد في تركه علم ندبيته وأن المصلحة في ندبيته والمفسدة في خلافها، وما نهوا عنه علم تحريمه وأن المصلحة في تركه والمفسدة في فعله، وما أرشدوا إلى تركه من دون وعيد على فعله علم كراهته وأن المصلحة في كراهيته والمفسدة في خلافها، وما سكتوا عنه علم أن المصلحة في إباحته والمفسدة في خلافها، وقلنا في الواجب والمحرم، إن المصلحة والمفسدة متعلقان بالفعل والترك حسبما ذكر، وفي الثلاثة الآخرة أنهما متعلقان بنفس الندبية والكراهية والإباحة ومخالفتها لأن المصلحة وإن تعلقت بفعل المندوب وترك المكروه، فلا تتعلق المفسدة بترك المندوب وفعل المكروه وإلا لما افترقا عن الواجب والمحرم، وإنما المفسدة في مخالفة الندبية والكراهة، وهو أن يحكم للفعل المندوب بخلاف الندبية بل بغيره من الأحكام الأربعة أو يحكم للفعل المكروه بخلاف الكراهة، بل بغيره من الأحكام الأربعة، وكذلك المباح فإن المصلحة متعلقة بإباحته والمفسدة متعلقة بخلافها، وهو أن يحكم له بأحد الأحكام الأربعة، فإن المصلحة والمفسدة في هذه الثلاثة الأخيرة يتعلقان بالحكم الشرعي في المصلحة أو تغييره في المفسدة كما عرفت، وبهذا يندفع ما استشكله بعض الأصوليين من تعلق الثواب والعقاب بمعرفة المباح مع أنه لا ثواب ولا عقاب في فعله ولا تركه، فإن الثواب متعلق بمعرفة حكمه وتقريره(1/51)


على الإباحة، والعقاب يتعلق بمخالفة حكمه وهو الإباحة، وإبدالها بحكم آخر من الأحكام الأربعة فتأمل.
إذا عرفت ذلك فجميع ما ذكر من الضروب الثلاثة والانقسامات المذكورة في الثاني والثالث يكون معرفة الجميع، وفعل ما وجب أو ندب لأجل أمر الشارع به وترك ما نهى عنه أو أرشد إلى تركه لأجل نهي الشارع عنه شكراً لله تعالى، والمخالفة له تعالى بتغيير أي حكم منها أو ترك ما وجب من الشرعيات قطعاً أو فعل ما حرم منها قطعاً يكون كفراً لكنه يُقيَّد في ترك الواجب وفعل المحرم بكفر النعمة، وكذلك الواجب والمحرم في الضرب الثاني ما لم يكن عن استحلال فيكون كفراً بلا قيد أو عن إكراه و نحوه، فلا أيهما ولا إثم، ومن هذا التفصيل يظهر مراد من قال أن الشكر العقلي ليس إلا الاعتراف بالمنعم والنعمة، فمرادهم قبل ورود الشرائع لأن العقل لا يهتدي إلى شيء منها، فلو قيل: إنها شكر واجب لزم تكليف ما لا يعلم، فاقتصروا على قولهم الشكر يعنون العقلي الاعتراف فقط ويظهر مراد من قال: إن الطاعات شكر، فمرادهم أن فعلها بعد الأمر بها شكر وقبل الأمر بها يحكم العقل فيها أنه متى صدر الأمر بها وجب الفعل شكراً، وإنما قلنا: إن الجميع شكر، لأن مجرد الاعتراف لو وقع الاقتصار عليه بعد ورود الشرائع لكان كافياً، ومن المعلوم أن من اقتصر عليه ولم يمتثل الأوامر والنواهي لم يعد شاكراً بل كافرٌ سيما مع الاستحلال، وقد قال تعالى: ?اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ?، وقال تعالى: ?وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ?{النحل:72}، فلو كان الاعتراف كافياً لما وصفهم بالكفر مع قوله تعالى: ?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّه?{الزخرف:87}، وقوله تعالى: ?قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا(1/52)


لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ?{يس:47}، فهم معترفون أن الإطعام من الله، لا يقال إنما كفرهم الله تعالى بأفعالهم القبيحة الآخرة من تكذيب الأنبياء عليهم السلام وعبادة الأصنام وعدم تصديق المعاد، لأنا نقول هب أن الأمر كما ذكرت في قوله تعالى: ?قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا? الآية، لكن في تعليق الكفر بالنعمة في قوله تعالى: ?وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ?، مع قوله: ?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّه? دلالة على أن الاعتراف بالنعمة لا يكفي في الخروج عن شكرها حتى يمتثل جميع ما أمر به ونهى عنه، وإلا لقال: أفبالله أو بالأنبياء أو بالمعاد هم يكفرون، ولَمَا تعرض لذكر النعمة لأنهم قد اعترفوا بها واعترفوا بفاعلها، ويدل عليه أيضاً قوله صلى الله عليه وآله وسلم: [ يا أبا ذر إن حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العباد ولكن أمسوا تائبين وأصبحوا تائبين ] أخرجه المؤيد بالله عليه السلام في سياسة المريدين، وقام صلى الله عليه وآله وسلم حتى ورمت قدماه فقيل له: أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: " أفلا أكون عبداً شكوراً "،وقال أمير المؤمنين عليه السلام : الإيمان قول مقولٌ وعمل معمول وعرفان بالعقول، وقال الشاعر:
أفادتكم النعما مني ثلاثة .... يدي ولساني والضميرَ المحجبا
وقد سبق في صدر الكتاب ما يفيد أن الخشية والطاعة تكون على قدر المعرفة بالله تعالى.
فثبت بجميع ذلك أن معرفة الله شكر ولطف، ولا وجه لقصرها على أحدهما على أنه يقال لمن قصر وجوب المعرفة على كونها لطفاً فقط، فيقال له: لطفاً في ماذا ؟
فإن قلتم: في الواجبات العقلية التي هي رد الوديعة وقضاء الدين وترك الظلم والكذب.(1/53)


قلنا: فقد يمكن أن يفعل هذه الملحد ومن لا يعرف الصانع لا تديناً بل لأجل الاعتبار ومعاشرة الناس واستصلاح المعيشة، وقد يمكن أن يقوم التقليد مقام المعرفة في اللطف فيها، وكثير من الخلق ليس عنده وديعة ولا دين ولا يكون من جهة ظلم ولا كذب إلا نحو ما يصدر مثله من بعض المسلمين، فلا تجب المعرفة حينئذ.
وإن قلتم: لطفاً في أداء الواجبات الشريعة.
قلنا: الواجبات الشرعية لا تجب إلا بعد معرفة الرسل وصدق المبلغ، فكيف يعلل إيجاب الأصل بالمحافظة على الفرع الذي لا يجب إلا بعد ثبوت أصله،وقد علل أبو علي وجوب معرفة الله في أحد قوليه بأن في تركها جهل به تعالى والجهل به قبيح، وهذا لا يكفي في الدلالة حتى يعرف الوجه الذي لأجله قبح الجهل به تعالى لأن ليس كل جهل قبيح لذاته، فإن العلماء بل الأنبياء يجهلون كثيراً مما يعلمه الله تعالى قال الله تعالى: ?وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً?{الإسراء:85}، فيقال: وجه قبح الجهل بالله تعالى، أنه يستلزم الإخلال بشكره أو عدم الإلتطاف في أداء الطاعات واجتناب المحرمات فيعود الكلام إلى ما ذكرناه، واعترضه صاحب شرح الأصول وهو السيد مانَكْدِيْم باعتراض آخر وهو أن قال: إن ذلك لا يستقيم، يعني إيجاب الله المعرفة بالله تعالى لقبح الجهل به تعالى إلا لو لم يمكن الانفكاك عن القبيح إلا إلى المعرفة، فأما ومن الممكن أن ينفك المرء عن القبيح لا إلى المعرفة بأن لا يفعلها ولا ما يضاددها فإنما ذكره لا يستقيم.(1/54)


قلت: وهذا الاعتراض لا يرد إلا إذا كان مراد أبي علي بالجهل الجهل المركب: وهو اعتقاد المعلوم على خلاف ما هو عليه، فيمكن الانفكاك عنه لا إلى المعرفة، فأما ومراده نوعي الجهل معاً المركب: كاعتقاد المشبه، والبسيط: كمن لم يثبته تعالى بتجسيم ولا تنزيه، ولا تعرض للكلام فيه تعالى بنفي ولا إثبات كالغافل، فإنه لا يمكن الانفكاك عن كلا نوعي الجهل إلا إلى المعرفة لاستحالة رفع النقيضين سيما إذا كان مرام أبي علي كما ذكره عنه القرشي في قوله: قبح تركها - أي المعرفة - وهو الجهل والظن ونحوهما، فإنه مفيد أنه يريد الجهل البسيط والمركب.(1/55)

11 / 311
ع
En
A+
A-