المعتزلة على الأمير محمد بن سليمان يريد قتله فأمر بضرب عنقه، فضحك، فقيل له: لما تضحك ؟ فقال: أرأيت لو أن رجلاً قام في السوق فقال: إن محمد بن سليمان يريد الفواحش والظلم وكل قبيح، فقام إليه رجل آخر فقال: كذبت، بل لا يريد إلا كل حسن أيهما أحب إليك ؟ قال: من دفع عني، قال: وأنا لا أبالي إذ أحسنت الثناء على الله تعالى. فَبُهِتَ ومَنْ حوله من المجبرة وخلي سبيله.
قال عدلي لمجبر: ما تقول فيمن قال: إن كلما كان في أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الكفر والفسق فهو يريده ويحبه ؟ فقال: يُقتل بسبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: فإن قال ذلك في أبي بكر وعمر ؟ فقال: يجلد لطعنه في الصحابة. قال: فإن قال ذلك في الله تعالى ؟ فسكت وانقطع.(1/541)


وعلى الجملة فلا يرتاب العاقل في أن إرادة القبيح قبيحة فيجب تنزيه الله تعالى عن ذلك [ وقد قال تعالى: ?وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ?، ?وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ?، وقال تعالى: ?وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَاد? ] وغير ذلك من آي القرآن كثير وقد مر ذكر بعض منها، ويزيده وضوحاً قوله تعالى إخباراً عما سيقوله المشركون في المستقبل: ?سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ?{الأنعام:148}، ثم لما قالوا ذلك أنزل فيهم قوله تعالى: ?وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ?{النحل:35}، فنص سبحانه وتعالى وحكى عن المشركين ما هو صريح مذهب المجبرة وحقيقته وهو أن الله تعالى يشاء شركهم وعبادة الأصنام والأوثان وتحريم ما حرموه من الوصيلة والسائبة والحام وما تضمنته بطون بعض الأنعام وغير ذلك مما لم يحرم في شريعة الإسلام، ثم أبطله وبين بطلان أنه يريده من عشرة وجوه:
أحدها: كونه تعالى حكى هذا الاعتقاد عن المشركين، وما حكاه عن المشركين وجب القضاء ببطلانه.
ثانيها: أنه حكاه عنهم على سبيل الإنكار ونعيه عليهم وتقبيحه منهم، وما حكي على هذا الوجه فلا مرية في بطلانه.(1/542)


ثالثها: أنه تعالى كذبهم بقوله: ? كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ? حيث شبه كذب أو تكذيب من قبلهم بكذبهم أو تكذيبهم، ومن كذبه الله تعالى كان كاذباً ومن وافقه على مضمون الجملة المخبر بها، وقد وافقهم المجبرة على مضمون ما قالوه من أن الله تعالى شاء شركهم ونحوه، فيجب أن يتناوله تكذيب الله تعالى للمشركين لمشاركتهم إياهم فيما حكى فيه أنه كذب وهو مشيئتة تعالى شركهم ونحوه.
لا يقال: لم يشاركوهم في التحريم فلا يصح القياس لأنه جزء العلة.
لأنا نقول: المراد الإخبار في الآية عما صدر من القبح والكذب من المشركين في اعتقادهم في المشيئة وقد شاركهم المجبرة في ذلك وإن انفرد المشركون بذنب آخر أدمج تحت الحكم المذكور فلا يقدح، كما أن قوله تعالى: ?وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا o يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا?{الفرقان:69،68}، لا يقدح العطف بقوله: ?وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ?، ?وَلا يَزْنُونَ? في دلالة الآية على خلود من يدعو مع الله إلهاً آخر في النار إن لم يفعل القتل والزنا.
وبعد فإن التحريم الذين حرمه المشركون هو عند المجبرة من الله تعالى والله فاعله ومريده فقد وافقوهم في زعمهم أن الله تعالى حرم ما حرموا، غايته أن المشركين موافق تحريمهم لتحريم الله تعالى، وعدم تحريم المجبرة لذلك مخالفة ومشاققة لله تعالى، فيكون بذلك العذر كالمستجير من الرمضاء بالنار.
رابعها: قوله تعالى: ?حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا ?، فأخبر أنه تعالى أذاقهم البأس وأشار بحتى إلى أن ذلك الاعتقاد هو العلة الموجبة للإذاقة.(1/543)


خامسها: أنه تعالى أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بمناظرتهم ومحاججتهم بطلب البرهان على ذلك بقوله: ? قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ?، وهذا لا يقال إلا لمن هو مبطل وكاذب في دعواه.
سادسها: قوله تعالى: ? إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ?، فأخبر أن ليس عندهم علم بذلك وإنما هو مجرد توهم وظن، وما كان على هذا المنوال فيما يتعلق بأصول الديانات والعقائد فهو باطل لا يجوز الاعتماد عليه.
سابعها: قوله تعالى: ?وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ?، أي تفترون الكذب لأن الخرص هو الافتراء ومنه قوله تعالى: ?قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ?{الذاريات:10}، وإن كان ليس إلا مجرد الكذب وهو عدم المطابقة ولم يتعمد افتراءه، فهو في العقائد المتعلقة بأصول الدين باطل مذموم كالافتراء، وإلا أدى إلى عدم تخطية من أوقعته الشبهات في نفي الصانع والنبوة والمعاد ونحو ذلك.
ثامنها: قوله تعالى في الآية الأخيرة: ?فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ?، فأخبر تعالى أن الرسل قد بلغت إليهم وحذرتهم هذا الاعتقاد الخبيث، فيجب أن يكون باطلاً، لأن ذلك لا يقال لمن هو محق فيما هو عليه.
تاسعها: ما تضمنه قوله: ?فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ?، من التهديد والوعيد كما في قوله تعالى: ? فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إن عليك إلا البلاغ?{الشورى:48}.(1/544)


عاشرها: أنه تعالى أسند إليهم جميع ما ذكر في الآيتين الكريمتين من القول والتحريم والإخراج والكذب والخرص وأسند إلى الرسل صلوات الله عليهم البلاغ وإلى نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم القول وأمره بمحاججتهم، فأي بيان بعد هذا البيان، وأي برهان فوق هذا البرهان لو لا عمى بصائر المجبرة القدرية قاتلهم الله عن تدبر آيات الله، وعدم الاستماع منهم لما يقرره ويدين به عترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرناءُ الكتاب وحملة الحكمة وفصل الخطاب وأُمَان هذه الأمة من نزول العذاب.
وقد تأول المخالفون هاتين الآيتين الكريمتين بهذيان لا ينبغي الالتفات إليه إلا على وجه البيان لبطلانه، والبرهان على هذيانه فاسمع واعجب ومهما عشت أراك الدهر العجب، قال أحمد في حاشيته على الكشاف: إن قول المشركين ?لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا? صادر منهم على جهة النفاق وإظهار موافقة المحقين في هذا الاعتقاد، وأن قلوبهم وعقائدهم منطوية على خلافه الذي هو معتقد المعتزلة، فتكذيب الله تعالى إياهم وما ذكر معه من الإذاقة ونحوها راجع إلى ما اعتقدوه وأضمروه لا إلى ما قالوه نفاقاً وأظهروه، وأن ذلك مثل قوله تعالى: ?إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ?{المنافقون:1}، فقولهم: ? إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ? حق وصدق مطابق للواقع، ولكنه لما لم يصدر منهم عن اعتقاد موجبه كذبهم الله في هذا القول، ولو صدر عنهم على وجه الاعتقاد لنبوته صلى الله عليه وآله وسلم لما كذبهم بل كان يصدقهم.(1/545)

109 / 311
ع
En
A+
A-