يعترض بأن هذا إنما يتناول كراهية الفعل من الغير لا كراهية الفعل من المتصف بالكراهة إذ لا شك أن المؤمن يكره أن يفعل المعصية، ولا يصح أن يوقع كلامه نهياً عن معصية نفسه إذ النهي إنما يتعلق حقيقة بفعل الغير، وقد جعل الشيخان المذكوران رحمهما الله تعالى ما ذكر من الحدود شاملاً للإرادة في حق الشاهد والغائب، وكذلك غيرهما ممن يوافق المعتزلة في هذه المسألة كالمهدي عليه السلام وغيره من الزيدية.
وقال شارح الأساس رحمه الله وقدس الله روحه في حد الإرادة: وهي من المخلوق النية والضمير. ولم يحد الكراهة، وأشار الإمام عليه السلام إلى حدها في المتن بقوله: والكراهة ضد المحبة. وكلا الحدين لا يخلو من تسامح لأن ما ذكر في حد الإرادة لا يتناول إرادة فعل الغير إذ لا يمكن تتعلق به من المريد نية ولا ضمير، وما ذكر في حد الكراهة فيه خفاء لأنه لم يؤت فيه بماهية الكراهة وجنسها وإنما قال: هي ضد المحبة، والضدان يرتفعان بثالث كالسواد والبياض والحمرة، فلو حد السواد بأنه ضد البياض لتردد الحد بين السواد والحمرة وغيرهما من سائر الألوان، فلو قال قائل فتحد الكراهة بأنها نقيض الإرادة أو نقيض المحبة، لم يصح أيضاً لأن الإرادة والكراهة ضدان وليسا نقيضين لأن النقيضين لا يرتفعان بثالث، والإرادة والكراهة يرتفعان بأن لا يكون الحي مريداً لشيء ولا كارهاً له، فقد عرفت ما يرد على دعوى معرفة حد الإرادة والكراهة بالنسبة للمخلوق الذي حوتهما نفسه، فكيف بدعوى معرفة كنه ذلك بالنسبة إلى الخالق الذي حارت الأفهام وعجزت عن إدراك كُنْهِه تعالى.(1/536)
فإن قلت: فما تقول في حَدِّهما؟.
قلت: الأظهر أنهما لا يحدان إما لخفاء جنسهما وفصلهما، وإما لأنهما من الأمور المعلومة عند النفس بالضرورة كالجوع والشبع والعطش والري والسواد والبياض وغير ذلك من المعلومات والمدركات بالضرورة من دون افتقارها إلى الحدود.
إذا عرفت ذلك فلا خلاف بين كل من أثبت الصانع المختار من المسلمين والكتابيين والبراهمة وبعض عباد الأصنام وغيرهم أن الله تعالى مريد وكاره، وهي المسألة الفارقة بيننا وبين الفلاسفة والطبائعية وكل من نفى عن الله الاختيار وهي معلومة من السمع ضرورة كقوله تعالى: ?يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ?،?إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا? {يس:82}، ?إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ?{النحل:40}، وقوله تعالى: ?كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ?، ? وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ?{التوبة:46}، فيكفر من أنكر كونه عز وجل مريداً وكارهاً لرده ما علم من الدين ضرورة ومعلوم من العقل استدلالاً، لأن من صدرت عنه الأفعال على الوجوه المتنوعة والصفات المختلفة وصدرت عنه الأوامر والنواهي والوعد والوعيد والزجر والتهديد علم قطعاً أنه مريد وكاره.
وقد اختلف المتكلمون الذين ذهبوا إلى تحديد الإرادة والكراهة في حق الله تعالى على أقوال جمة كلها لا تخلو عن مناقشة وسؤال وخفاء واستشكال لا حاجة لنا بذكرها خشية التطويل مع عدم الاحتمال، فالأولى الوقف في معناهما في حق الله تعالى مع اعتقاد أنه تعالى مريد وكاره على الجملة، وأنه يريد كل الخير ويكره كل الشر، وهذا مذهب جماعة من أئمتنا عليهم السلام وأتباعهم الأعلام كالإمام المنصور بالله الحسن بن بدر الدين صنو المؤلف عليهم السلام، والهادي بن إبراهيم، والإمام شرف الدين، والمفتي، والجلال، وسيدي العلامة وجيه الإسلام وذكره في مؤلفه الإرشاد الهادي حكاه عنهم شيخنا رحمهم الله جميعاً واختاره وهو الحق، والله أعلم.(1/537)
مذهب المجبرة في الإرادة والكراهة والرد عليهم
قال عليه السلام [ فإن قيل لك: ] أيها الطالب الرشاد [ أربك يريد شيئاً من القبائح؟ ] وكل فعل تضمن ظلماً أو كذباً أو عبثاً أو مفسدةً أو سفهاً أو نهى عنه الشارع وقد مر تفصيل الكلام في ذلك [ فقل: إنه تعالى لا يريد شيئاً منها، ] وسواء في ذلك ما وقع منها أو لم يقع، وكذلك فإنه تعالى يريد الحسن كله من العدل والإنصاف والإحسان والصدق وجميع الطاعات وسواء وقع ذلك أم لم يقع، ويريد تعالى صلاح خلقه ومعايشهم وعمارة كونهم من الوجوه المستحسنة، وإنما ترك المؤلف عليه السلام ذكر إرادته تعالى الحسن استغناءً بذكر أهم طرفي الباب عن ذكر الآخر وإيثاراً للاختصار، وهذا قول أهل العدل كافة، والخلاف في ذلك للمجبرة كافة فإنهم لما اعتقدوا أن أفعال العباد كلها من الله تعالى الصلاح منها والفساد ذهبوا إلى القول بموجب ذلك، فزعموا أنه تعالى يريد جميع الواقعات والكائنات طاعة كانت أو معصية، ويكره جميع ما لم يكن ولم يقع طاعة كانت أو معصية، فيتحقق موضع الاتفاق وموضع الاختلاف بيننا وبينهم باعتبار أربعة أطراف:
ما وقع من الطاعات، فمتفق أنه تعالى يريده ولا يكرهه.
وما لم يقع من المعاصي، فمتفق على أنه تعالى لا يريده بل يكرهه.
ومالم يقع من الطاعات ممن أمره بها فعندنا يريده، وعندهم بالعكس لا يريده.
وما وقع من المعاصي فعندنا أنه تعالى لا يريده بل يكرهه، وعندهم بالعكس يريده ولا يكرهه.(1/538)
فصار النزاع في طرفين المعاصي الواقعة والطاعات التي لم تقع [ فـ ] الذي يدل على أنه تعالى يكره المعاصي الواقعة وأنه [ لا يريد الظلم، ولا يرضى الكفر، ولا يحب الفساد، ] وصدر عليه السلام هذه الجملة على الاستدلال العقلي، ليفيد أن ما ذهبنا إليه هو ما صرحت به الآيات الكريمة من قوله تعالى: ?وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَاد?، ?وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ?، ?وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ?، ? يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ?، والمراد ما يَؤول بكم إلى اليسر وهو الطاعات وما يؤول بكم إلى العسر وهو المعاصي، لأن الطاعات والمعاصي لا يصح أن يكونا هما المرادان من اليسر والعسر بل ما يتسبب منهما من الثواب والعقاب، فالله يريد ما يسبب لنا اليسر وهو الطاعات، ولا يريد ما يسبب علينا العسر وهو المعاصي، وقال تعالى بعد تعداده كثيراً من المعاصي: ?كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا?، فنص تعالى أن كل المعاصي مكروهة عنده تعالى ولم يقل مكروهاً منها ما لم يقع محبوباً ما وقع كما هو مقتضى مذهب الخصم، وأبلغ في الدلالة على طرفي الاختلاف قوله تعالى: ? فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ o ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ?{محمد:28،27}، فصرح تعالى بأنه يسخط ما فعلوه واتبعوه وأنه لا يرضى ما كرهوه وتركوه من الطاعات التي أمرهم بها وسماها ?رِضْوَانَهُ?مبالغة في إرادتها وعدم كراهيتها لأنها تؤدي إلى رضوانه وإثباته، ثم أكده بقوله: ?فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ?ولو كان يريدها منهم لما أحبطها عليهم بل كانوا من حقهم أن يجازيهم عليها بالثواب لأن من أراد من غيره فعلاً ثم فعله، المراد منه استحق المكافأة بالثواب لا بالعقاب، وإنما قلنا: إن هذه الآية(1/539)
أبلغ في الدلالة من التي قبلها. لأن الأولى ذكر فيها أنه تعالى يكره المعاصي ولم يذكر فيها أنه يريد ما لم يقع من الطاعات لكن ذلك مفهوم من لازم الخطاب مع ما ذكر في أول الآيات?وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاه? الخ الآيات، والثانية ذكر فيها الطرفين معاً بالمنطوق والصراحة قال شيخنا رحمه الله تعالى في حاشيته: المجبرة في هذه المسألة يكابرون القرآن لأن دلالة هذه الآيات واضحة.
ثم أخذ عليه السلام في الدلالة العقلية فقال [ لأن ذلك ] كله من إرادة الظلم والكفر والفساد والكذب وسائر المعاصي [ كله يرجع إلى إرادة القبيح، وإرادة القبيح قبيحة، ] لأن الإرادة والكراهة من الصفات التي لا يدخلها الحسن والقبح لذاتها، وإنما يدخلها الحسن وتكون حسنة باعتبار حسن ما تعلقت به، ويدخلها القبح وتكون قبيحة باعتبار قبح ما تعلقت به، فإرادة الحسن من العدل والإحسان والصدقة وجميع الطاعات حسنة من الفاعل لذلك ومن غيره كإرادتنا والإرادة إليه تعالى ما فعله الغير من الخير، وإرادة القبيح من الجور والإساءة والكذب وجميع المعاصي قبيحة من ذلك الفاعل ومن غيره كأن يريد الكفار والفجار ما صدر من المعاصي من إخوانهم الأشرار [ والله تعالى لا يفعل القبيح. ] كما مر تقريره في أول الباب وهو متفق على القول به، لكن زعم الخصوم أن ما فعله الله تعالى في الخلق من خلق المعاصي وإرادتها لا يقبح منه وهي مباهتة ومناقضة للمعنى، إذ لم يبق تحت قولهم لا يفعل القبيح معنى أرادوا أن ينزهوا الله عنه بعد إضافتهم إليه كل ظلم وكذب وكفر وفسق في الخارج تعالى الله عن ذلك [ ألا ترى أنه لو أخبرنا مُخْبِرٌ ظاهر العدالة أنه يريد الزِّنا ] أو يريد قتل الأنبياء والمؤمنين أو شرب الخمر أو غير ذلك من المعاصي [ سقطت عدالته ونزلت منزلته عند جميع العقلاء، ولا علة لذلك إلا أنه أتى قبيحاً، وهو إرادة القبيح. ] لأن مريد القبيح وفاعله سواء، وأُدخل رجل من(1/540)