شبهة القائلين بالوقوع: أنه تعالى كلف أبا لهب أن يؤمن بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن جملة ما جاء به أنه لا يؤمن وأنه سيصلى ناراً ذات لهب، فيلزم التكليف بلازمه وهو الكفر لوجوب توقف صدق الخبر عليه مع التكليف بالإيمان الذي هو التصديق بالإيمان الذي هو التصديق بالله ورسوله، فقد كُلِّفَ بين النقيضين وهو محال.
والجواب: والله الموفق للصواب: من سَلَّم لكم أنه يلزم التكليف بلازم الخبر وهو الكفر لأنه يحصل صدق الخبر بمجرد المطابقة للواقع وهو يحصل بمجرد أن يفعل أبو لهب الكفر مختاراً ولا تفتقر إلى أن يكلفه الله تعالى به ولا إلى أن يخلقه فيه، دليله أن أبا لهب لا يستحق ثواباً على تصديقه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا يؤمن، فما ذاك إلا أنه غير مكلف به لأن التكليف مقتضى الثواب. وبعد فتكليفه بالكفر لا يصح، لأنه حاصل قبل بعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لا يقال: مسلم فيما سبق منه البعثة دون ما بعدها فقد كلف به لتحصل به المطابقة.
لأنا نقول: حصوله منه فيما بعد البعثة كحصوله فيما قبلها في أن الكل واقف على اختياره له لا على تكليفه به أو خلقه فيه، دليله أن المعلوم من حال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان ينهاه عن الكفر ويطلب منه الإيمان، فكيف يصح تقدير أنه مكلف مع ذلك بالكفر أو أن الكفر مخلوق فيه، وأن المعلوم من حال أبي لهب إقامته على الكفر أمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم به أم نهاه عنه، أمره بالإيمان أم لا، أنزل الله تعالى فيه قرآناً أم لا، ولأنه كغيره من سائر الكفار الذين علم الله من حالهم أنهم يموتون على الكفر، فكما لا يقال إنهم مكلفون به لتحصل المطابقة لما علمه الله تعالى، لا يقال: إن أبا لهب مكلف لتحصل المطابقة لما أخبر به سبحانه وتعالى.(1/531)
وبعد فالتكليف إنما يكون بما هو خير ومصلحة ولا خير في الكفر ولا مصلحة فيه ولا يرضاه الله لأحد من عباده فكيف يصح تقدير أنه مكلف به؟
وبعد فالتكليف لا يكون إلا بالتبليغ إلى المكلف، ولا نسلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلغ إلى أبي لهب أنه لا يؤمن، لأنه صلى الله عليه وآله وسلم إنما بعث لتبليغ الشرائع والمصالح إلى الخلق والكفر بمعزل عن ذلك بل هو النقيض لما هنالك، وأما قوله تعالى: ?سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ?{المسد:3}، فلا نسلم أنها إخبار عن أبي لهب على القطع لما في ذلك من المفسدة والأياس والقنوط من رَوْحِ الله ووجود ما يقتضي تثبيطه عن الإيمان واستمراره على الكفر، بل هي خبر وارد مورد الوعيد المشروط، وأن المعنى سيصلى ناراً ذات لهب إن استمر على كفره، فلا معلومية عند نزولها أنه سيموت على الكفر فلا يمكن التمسك بها حال نزولها على محل النزاع لتحصل المطابقة للخبر إذ لا خبر حينئذ يدل عليه قوله تعالى: ?وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ?{آل عمران:179}، فأبو لهب وغيره داخل في الخطاب لعدم الاطلاع على الغيب والأمر بالإيمان والوعد عليه بالأجر العظيم.
قالوا: قال تعالى: ?مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ?{هود:20}، وقال تعالى: ?وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا o وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا?{الإسراء:46،45}، فأخبر تعالى أنهم لا يستطيعون سماع القرآن، وأنه جعل بينهم وبينه حجاباً وأكنةً وفي آذانهم وقراً مع كونهم مكلفين باستماعه واتباعه.(1/532)
قلنا: ظاهرها متروك بالاتفاق لأنهم كانوا يسمعون ويبصرون بلا مِرْيَة ويؤكده قوله تعالى: ?وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا?{الأنفال:31}، وإنما المراد تمثيلهم وتشبيههم والمبالغة في الإخبار عن عنادهم بمن لا يستطيع أن يسمع ولا يبصر، ولمن بينه وبين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حجاب وعلى قلبه كنان وفي أذانه وقر مع أنه لا وجود لشيء من هذه المذكورة حقيقة، وإنما ذلك مجاز واستعارة، وذلك نوع من الفصاحة والبلاغة.
I(1/533)
فصل في الكلام في أن الله تعالى لا يريد شيئاً من المعاصي ولا يكره شيئا من الطاعات
ولا بد قبل الكلام في ذلك أن نقدم الكلام على معنى الإرادة والكراهة إذ لا يحسن الكلام في المركبات إلا بعد معرفة معنى ما تركبت منه.(1/534)
معنى الإرادة والكراهة
قال النجري رحمه الله تعالى: الإرادة: هي المعنى الذي متى اختص بالحي أوجب كونه مريداً.
قلت: وهذا الحد يلزم منه الدور لأنه كونه مريداً مشتق من الإرادة وقد أخذه في تعريفها وذلك لا يصح في الحدود، وأما حد الكراهة فحدها كذلك بإبدال كونه مريداً بكونه كارهاً ويرد عليه ما ورد في الإرادة.
وقال القرشي رحمه الله تعالى: المريد: هو المختص بصفة لمكانها يصح أن يوقع الفعل على وجه دون وجه إذا كان مقدوراً، قال: وقلنا: إذا كان مقدوراً، ليدخل كونه مريداً لفعل الغير.
قلت: وهذا الحد معترض بأنه يلتبس المريد بالقادر والعالم عنده، لأنهما عنده المختص بصفة لكونه عليها يصح منه الفعل ويزاد في العالم المحكم، وليس قوله في المريد على وجه دون وجه، ينافي الإطلاق في القادر والقيد بالإحكام في العالم، اللهم إلا أن يقال الإطلاق في القادر والقيد بالإحكام في العالم وبقوله: على وجه دون وجه في المريد وضعت لتمييز بين هذه الثلاثة فمن حق المميز في الحدود أن يعود إلى المعنى الفاصل لا إلى مجرد العبارة التي لا تقتضي التمييز. ومعترض أيضاً بأنه لا يتناول إرادة فعل المريد لا إرادة فعل الغير، لأن قوله: إذا كان مقدوراً له، لا يفيد دخول فعل الغير كما زعمه لأن ما ذكر في أول الحد وهو قوله: المختص بصفة، كالجنس الشامل للحدود وغيره كالقادر والعالم والحي والسميع والبصير والكاره وسائر الصفات، وقوله: لمكانها يصح أن يوقع الفعل، خرج منه السميع والبصير والكاره ونحوها، وهل يخرج منه الحي ؟ يحتمل خروجه لأن الحي هو من يصح منه أن يقدر ويعلم، ويحتمل عدم خروجه لأن الحياة لا تنافي صحة إيقاع الفعل بل هي لازمة له وشرط في صحته، ثم قوله: على وجه دون وجه، فصل ثان أراد به إخراج القادر والعالم، ثم قوله: إذا كان مقدوراً له. لا يصح أن يقال إنه فصل ثالث أراد به إدخال فعل الغير لأن الفصول يؤتى بها للإخراج لا للإدخال، ثم يتناول الجنس إرادة فعل الغير حتى يقال إن قوله: إذا كان مقدوراً له، أتى به ليشير إلى أن الإرادة تتعلق بفعل المريد وبفعل غيره.
ثم قال رحمه الله تعالى في حد الكاره: هو المختص بصفة لمكانها يصح منه إيقاع كلامه نهياً ونحوه.(1/535)