شروط حسن التكليف
وأما شروط حسن التكليف فهي على ثلاثة أضرب:
منها: ما يرجع إلى المكلِّف الحكيم. ومنها: ما يرجع إلى المكلَّف الذي هو العبد. ومنها: ما يرجع إلى الفعل المكلًَّف به.
أما الضرب الأول: فأربعة:
أن يكون مالكاً منعماً على المكلف بأصول النعم.
وأن يكون عالماً بأهلية المكلَّف لما كلفه واجتماع سائر الشروط في حقه.
وأن يكون غرضه بالتكليف التعريض إلى درجات لا تنال إلا به.
وأن يكون عالماً بأنه سيفي بما وعد به من الثواب وترك العقاب وما لا يتم ذلك إلا به من انقطاع التكليف وسلامة الثواب من الغُصص بتجويز موت في الآخرة أو تعب ونصب بتكليف فيها.
وأما الضرب الثاني: فأربعة أيضاً:
أن يكون العبد المكلف أهلاً لما كُلِّفَه بأن كان بالغاً عاقلاً قادراً على الفعل.
وأن يكون عالماً بوقوع التكليف عليه أو متمكناً من العلم به وبصفة ما كُلِّفَه من وجوب أو ندب في الفعل أو حرمة أو كراهة في الترك، وقد دخل تحت هذا العلم أن للفعل أو الترك المكلف بأيهما مدخلاً في استحقاق الثواب والعقاب لئلا يتوهم العبث والظلم في تكليفه فلا يصح تكليف الغافل وإن كان بالغاً عاقلاً قادراً.
وأن يكون مزاح العلة بإجراء اللطف عليه وهو ما يدعوه إلى الفعل من دون إلجاء ورفع الموانع التي معها يتعذر الفعل، وإلا لزم سقوط التكليف أما إلى بدل كالصلاة بالتيمم أو من قعود لمن تعذر عليه الوضوء أو القيام، أو إلى غير بدل كالحج ممن يستطيعه.
وأن يكون عليه مشقة في الفعل أو الترك ليترتب عليها الصبر على الفعل أو على ما يتصل به من سبب كالنظر في معرفة الصانع أو توقي مُحْبِط كالرياء والعُجْب ليستحق الثواب على ذلك.
وأما الضرب الثالث: فأربعة أيضاً:
أن يكون الفعل مقدوراً فلا يصح بالمحال ذاته كالجمع بين الضدين، ولا بالنظر إلى من طلب منه كتكليف الأعمى بنقط المصحف صحيحاً.(1/526)
وأن يكون له مدخل في استحقاق الثواب والعقاب، فلا يعقل التكليف بالمباح لاستلزام انقلابه واجباً أو محظوراً أو نحوهما.
وأن لا يكون الفعل مفسدة في نفسه كالتكليف بكفر النعمة وفعل الظلم ونحو ذلك، أو موجباً ومسبباً للمفسدة كتكليف النبي الجهاد الموجب قتله قبل التبليغ وكسب آلهة الكفار في وجوههم مع العلم بتسبيب ذلك إلى سب الله تعالى، وهذا التمثيل أولى مما مثل به القرشي رحمه الله تعالى بقوله: وأن يعلم الله تعالى أنه إذا كلف زيداً كفر أو كفر عمرو لأجل التكليف، لأن الذي يظهر أن أكثر الكفار كذلك اللهم إلا أن تكون المسألة مفروضة أن زيداً أو عمراً كانا مؤمنين قبل ذلك التكليف فذلك لا يتأتى، إذ لا يصح تقدم الإيمان على التكليف.
وأن يتقدم الإعلام بالتكليف على زمن الفعل أو الترك المطلوبين من المكلف بوقت أقله ما يمكن فيه الإعلام والنظر في صفة الفعل أو الترك المترتب عليها الصحة العقلية والشرعية والعلم بما في ذلك من ثواب أو عقاب.
وقد جعل القرشي الأولين من هذا الضرب راجعين إلى الفعل المكلف به، والأخيرين راجعين إلى نفس التكليف ومثله للإمام يحيى عليه السلام ، والأظهر عدم الفرق في أن الجميع يصح أن ترجعه إلى أيهما أردت والله أعلم.
وإذ قد نجز غرضنا في حسن التكليف وشروطه، فلنعد إلى المسألة المقصودة من الباب.(1/527)
قال عليه السلام [ فإن قيل: ] لك أيها الطالب الرشاد [ أربك يكلف أحداً ] من العباد [ فوق طاقته؟ ] أي قدرته واستطاعته [ فقل: لا، ] تعالى عن ذلك [ بل لا يكلف أحداً إلا ما يطيقه ]، وهذا قول أهل العدل قاطبة، واختلف أهل الجبر في ذات بينهم فقال جمهورهم بجوازه عقلاً ومنعه سمعاً،وقال الغزالي وابن الحاجب: بمنعه عقلاً وسمعاً، وذهب الأشعري إلى جوازه عقلاً وسمعاً وقد صرح هو والرازي بوقوعه من الله تعالى، هكذا حكى الخلاف بينهم شيخنا صفي الإسلام رحمه الله والقرشي إلا عن الرازي قال القرشي: ثم اختلفوا في صحة تكليف من لا يعلم والعاجز، فمنعه محققوهم وأجازه الباقون مع اتفاق الجميع على منع تكليف الجماد، قال: واعلم أنه لا محصول لشيء من هذه الخلافات لأنهم متفقون على أن الله تعالى خالق لجميع أفعال العباد، فلا بد أن يكون التكليف بالأفعال تكليفاً لما لا يطاق إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى. وقد صرح صاحب جمع الجوامع بجواز التكليف بالمحال مطلقاً، وهذا أعجب من الجميع، وحكى القاضي أحمد بن يحيى حابس رحمه الله تعالى عن الغزالي أنه إنما منع تكليف ما لا يطاق لأنه لا داعي له تعالى إلى ذلك لا لقبحه فلا يقبح منه تعالى بناءً على أصلهم أنه لا يقبح منه قبيح، فإذاً لا ثمرة في موافقته العدلية على منع تكليف ما لا يطاق مع تعليله بعلة لا تقتضي التنزيه، بل مثله مثل من يترك شرب الخمر لا لتحريمه بل لعدم الشاهية إليه وإلا لو أشتهاه لشربه، وهذا في الحقيقة يؤول إلى الذم لا إلى المدح حيث لم يترك ذلك ديانة، لكن قد حكى القاضي أحمد بن سعد الدين المسوري رحمه الله تعالى وغيره من أصحابنا المتأخرين رجوع الغزالي إلى مذهب الزيدية في جميع ما يذهبون إليه، وإنما ذكرنا هذا تنبيهاً على أنه لا محصول لتعليل المنع بعدم الداعي.(1/528)
نعم واختلف أهل العدل هل قبح تكليف ما لا يطاق معلوم ضرورة أو استدلالاً، فقال أبو الحسين والشيخ محمود وشارح الأساس: العلم بذلك ضروري شاهداً وغائباً. وقال الجمهور: بل العلم بذلك استدلالي،وكلام الأمير عليه السلام يحتمل الأول حيث اقتصر على قوله [ لأن تكليف ما لا يطاق قبيح، وهو تعالى لا يفعل القبيح، ]، ويحتمل الثاني حيث عطفه على ذلك بقوله [ وقد قال تعالى: ?لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا? والوسع دون الطاقة، ]، يدل عليه قول الشاعر:
كَلَّفْتُها الوسعَ في سَيْرِي لها أُصُلاً .... والوسْعَ منها دُوَيْنِ الجُهْدِ والوَخَذِ
أراد بالجهد ما يجهد الناقة من السير وهو أحثه، ودونه الوخذ بالخاء المعجمة مفتوحة وهو السير السريع دون الجهد، والوسع: السير بلا مشقة ولا سرعة [ وقال تعالى ]: ?لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا [ إِلا مَا آتَاهَا ]?{الطلاق:7}، وهاتان الآيتان نص صريح أن الله تعالى لا يكلف ما لا يطاق، فأين يتاه بالمجبرة قبحهم الله وتعالى عنهما وفي معناهما قوله تعالى: ?يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ?{البقرة:185}، إذ لا عسر فوق تكليف مالا يطاق، وقوله تعالى: ?وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ?{الحج:78}، ولا حرج أعظم من تكليف ما لا يطاق، وقوله تعالى: ?فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ? {التغابن:16}، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: " إذا أمرتم بأمر فأتوا منه ما استطعتم "، قال شيخنا صفي الإسلام رحمه الله تعالى: ولو ادعينا الضرورة من الدين لأمكن.(1/529)
قلت: هو معلوم من الدين ضرورة، وإنما خالف هؤلاء المجبرة إيثاراً لأصولهم المنهارة على الآيات والأحاديث المتواترة، وإلا فأي شبهة تقدح أن الغني الحكيم لا يطلب من الفقير والضعيف ما لا يجده ولا يقدر عليه فقاتلهم الله أنى يؤفكون، واستدل الجمهور على أن الله لا يكلف ما لا يطاق من جهة العقل بالقياس على قبح تكليف أحدنا الأعمى بنقط المصحف نقطاً محكماً متقناً، وتكليف المقعد الجري مع الخيل الجياد بل يقبح أمره بالقيام والمشي الخفيف، وهذا واضح.
شبهة القائلين بالجواز: أنه تعالى غير منهي ولا يقبح منه شيء من الأفعال التي تقبح في الشاهد، وجعلوا الآيات المذكورة والأحاديث دالة على عدم التكليف بما لا يطاق من المحال في ذاته، ولم تخلق القدرة عليه كالجمع بين الضدين والطيران دون أن تدل على أنه تعالى تركه لقبحه وقدحه في العدل والحكمة لو صدر منه تعالى، فهو كمن يصف زيداً بترك الزنا وشرب الخمر وسائر المعاصي عجزاً عنها لا تديناً وتورعاً.
لا يقال: ليس هذا وزانه لأنه تعالى غير عاجز عن ذلك.
لأنا نقول: قد جعلوا عمدة استدلالهم كونه تعالى غير منهي، فلزم كونه تعالى غير قادر على فعل القبيح لاستحالة وجود الناهي له، فانتفى منه فعل القبيح لتعذره منه لا لكونه قادحاً في عدله وحكمته ورحمته بعباده، وهذا واضح فتأمل.
وبعد فلا خلاف بينهم الجميع أن الله تعالى خلق الكفر في الكافر ولم يخلق فيه الإيمان وهو مكلف به وهو لا يقدر لعدم خلق القدرة فيه عليه، أو لخلق الكفر الذي يستحيل وجود الإيمان معه فقد وقع التكليف بما لا يطاق، فلا ثمرة في مخالفتهم إخوانهم القائلين بوقوعه، ولا معنى لتلك الآيات الكريمة والأحاديث القويمة، بل قد صارت لغواً والحال ما ذكر.(1/530)