وثانيها: أن المجوس يُذَمُّون ويُمْدَحُون على ما لم يكن فعلاً للمذموم والممدوح لأنهم يقولون: إن يزدان الذي هو الباري بزعمهم حدث عنه كل الخير بطبعه ولا يقدر على تركه ولا على الشر ويستحق على ذلك المدح، والعكس في إهرمن وهو الشيطان حدث عنه كل الشرور بطبعه ولا يقدر على تركه ولا على الخير ويستحق على ذلك الذم.
وثالثها: أن المجوس يجوزون تكليف ما لا يطاق وأنهم إذا أرادوا ذبح بقرة أتوا بها إلى شاهق فيقولون لها: إنزلي لا تنزلي. ثم يقولون: قد عصت فيذبحونها، وحكى القرشي رحمه الله تعالى في المنهاج أنه تشاجر عدلي ومجبري فيمن القدرية فجاءوا إلى مجوسي فقالوا له: يا مجوسي ممن المجوسية ؟ فقال: من الله، فقال العدلي: أَيُّنَا يوافقه؟
قالوا: بل مذهبكم يشبه مذهب المجوس لأنكم تنسبون الخير إلى الله وإلى العبد المؤمن والشر إلى الشيطان وإلى الكافر وتمدحون وتذمون على ذلك!!
قلنا: لم نقل إن ذلك بالطبع وإن الله والمؤمن لا يقدران على الشر وإن الشيطان والكافر لا يقدران على الخير فلم يحصل وجه الشبه، وبعد فأنتم لا تخالفونا أن الخير يسند إلى الله تعالى وإلى المؤمن ووقوع المدح على ذلك، وأن الشر يسند إلى الشيطان والكافر ووقوع الذنب على ذلك، وإنما تخالفونا بأن تقولوا: والله خالق وفاعل لأفعال الجميع ومريد لها ومقدرها.
قالوا: بل أنتم القَدَرِيَّة لأنكم تقولون: إن لكم قُدْرَةً على أفعالكم.
قلنا: فكان يلزم أن يقال: القُدْرِيَّة بضم القاف والأحاديث والآثار واردة بفتحها فهي من القَدَرِ لا من القُدْرَةِ، وبعد فأكثركم لا يخالف في ثبوت القدرة للعبد وإنما نفاها قدماؤكم وهم الجهمية وأثبتها جمهور متأخريكم، وإنما الخلاف بيننا وبينهم في أحكامها كما مر، فالإلزام مشترك فما أجابوا به فهو جوابنا.(1/516)
قالوا: فأنتم تقولون بالقَدَر في أفعالكم أنكم قَدَّرْتُمُوهَا، وأن الله تعالى قَدَّرَ أفعاله الأجسام والأعراض الضروريات، وقَدَّرَ أفعال العباد بمعنى كتبها وأعلم بها وحكم فيها.
قلنا: أما قولنا: إنا قدرنا أفعالنا، فنريد بذلك إيجادها على مقدار مخصوص وقد قال تعالى لداود عليه السلام ?وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ?{سبأ:11}، فلا محذور في ذلك، وأما سائر ما ذكرتم فالإلزام كما ذكرتم مشترك فما أجابوا به فهو جوابنا، وبعد فإنا لم نلهج بذلك ولم نولع به، وأنتم تلهجون بالقدر في كل قضية وتنسبونه إلى الله تعالى في كل معصية، ومن لهج بشيء سُمِيّ به ولذلك يقال لمن لهج وأولع بالتمر واللبن: تمري لبني.
فثبت أن القَدَرِيَّةَ هم المجبرة وهم كل من قال: إن الله خلق أفعال العباد وقدرها عليهم وأرادها منهم وقضى بها عليهم، ولا فرق في ذلك بين جهميهم وأشعريهم وكُلاَّبيهم وضراريهم وباقليهم ونجاريهم لأنهم الجميع متفقون على ذلك، وإنما اختلفوا في ذات بينهم في تفاصيل وتفرعات على ذلك.
وأما الأحاديث التي فيها وجوب الإيمان بالقَدَرِ وفي بعضها "خيره وشره" والأحاديث الواردة "القدر سر الله في خلقه فلا تفتشوه"، وفي بعضها: "فلا تتعرضوه" فلعل أن المخالف يتبجح بنقل روايتها وتعديد طرقها وسنداتها وتزكية رجالها وحفظتها وتمنيه نفسه الكاذبة أنه هو الذي عمل بمقتضى ما تضمنته من الأمر بالإيمان والنهي عن التفتيش عنها والبيان، وهيهات منه ذلك وأنَّا له بما هنالك، بل قد سلك فيها مسلكاً وعراً وعقبة كَؤُد ويفضي به ذلك إلى النار ذات الوقود.(1/517)
وبيانه أن هذه الأحاديث بعد تقدير صحتها تكون كالمتشابه في القرآن، ومذهب المخالف أنه لا يعلم تأويله إلا الله، فكان من حقه أن لا يحمل القدر على ما ادعاه من المذهب والاعتقاد الخبيث أن الله تعالى قدر معاصي العباد بمعنى خلقها وأرادها منهم وأن يؤمن بها على الجملة ولا يفتش عن سرها ويتعرض لمعناها، فقد فعل خلاف ما أمر وارتكب عين ما نهي عنه وزجر، فلو وقف عند حده وسكت عن القدر وما بعده لكان له مندوحة في ذلك لاندراجه مع القوم الذين خاطبهم صلى الله عليه وآله وسلم بما هو أصلح لهم من التعرض لما يبعد عليهم من درك الأفهام، وإنما عمل بهذه الأحاديث وأدرك معناها ورثة مدينة علمه وحرثة زرع حكمه قرناء الكتاب والداخلون من ذلك الباب وأَمَّن الله بوجودهم هذه الأمة من نزول العذاب.
ولا بأس بذكر شيء مما ذكره أئمتنا عليهم السلام العترة الطاهرة شموس الدنيا وشفعاء الآخرة في معاني تلك الأحاديث كما أشار إليها المنصور بالله عليه السلام في الشافي وغيره من أئمة الكلام على المذهب الصافي، أما قوله صلى الله عليه وآله وسلم لمن سأله أي الأعمال أفضل؟ فقال: " إيمان بالله ورسوله. قال: ثم ماذا؟ قال: بر الوالدين. قال: ثم ماذا؟ قال: الصلاة المكتوبة إلى قوله: وتؤمن بالقضاء والقدر خيره وشره "، أخرجه.(1/518)
المراد بالقضاء والقدر خيره وشره
فالمراد بخير القضاء والقدر ما يلائم النفوس من صحة الأبدان وصلاح الأولاد والأنعام ونزول الأمطار ونبات الثمار والأشجار وسلامتها من الجوائح ورخص الأسعار ونحو ذلك مما تتخيره النفوس وتريده، والمراد بِشَرِّه أضداد ذلك وهو ما ينافر النفوس من المرض والأسقام وموت الأولاد والأنعام وقحط الثمار وشحة الأمطار وغلاء الأسعار ونزول الجوائح ونحو ذلك مما تتضرر به النفوس وتكرهه كما مر في معنى قوله تعالى: ?وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ?{النساء:78}، وفي معنى ذلك قوله تعالى: ?وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً?{الأنبياء:35}، وقوله تعالى: ?ظَهَرَ الْفَسَادُ?{الروم:41}، وهو النقائص والآفات والجوائح في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا ولعلهم يرجعون، فإنه لا يستقيم أن يُؤَوَّل الفساد هاهنا بالمعاصي لأنه عَلَّلَ ظهور الفساد بالمعاصي المشار إليها بقوله: ?بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ?{الروم:41}، فصار ما كسبت أيدي الناس سبباً لظهور الفساد ومع كون المراد به النقائص ونحوها فهو حسن من جهته تعالى، ووجه حسنه ما ذكره بعد بقوله: ?لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا?{الروم:41}، أي جزاء بعض ما عملوه من السيئات والبعض الآخر مُؤَخَّرٌ إلى الآخرة، إذ لا يحسن إكمال عقاب المعاصي في الدنيا ثم قال: ?لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ?{الروم:41}، عِلَّةً أخرى في حسن تلك النقائص ونحوها وهو أن بسبب جدب الأمطار وغلاء الأسعار ونحو ذلك يكون التفات الخلق إلى خالقهم واللجا إليه والإنابة ?وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ?{الشورى:27}.(1/519)
وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " القضاء والقدر سر الله في أرضه فلا تفتشوه أو فلا تتعرضوا له " فإنما نهى صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك لما في التفتيش والتعرض لمعرفة أسرار القضاء الخافية بالنظر إلى الجزئيات التي يخفى على الأفهام تعيين وجه الحكمة فيها على القطع كمرض المؤمن والطفل ومعافاة الكافر وغنائة وغلبة الكفار والبغاة في بعض الأحوال على المؤمنين وتضييق الأرزاق وتعسرها على بعض الخلق وتوسيعها وتسهيلها على بعض، فإنه إذا أخذ العقل في معرفة الحكمة في كل فرد على التعيين كلت الأفهام وتناقضت القضايا والأحكام وسواء في ذلك العلماء والعوام، وإنما يجعل العلماء لها محامل كلية وتوجيهات حكمية على سبيل الإجمال لا على سبيل التفصيل بالنسبة إلى كل شخص وإلى كل حالة بأن يقولوا: يحسن إنزال الألم ونحوه بالمؤمن والطفل لمصلحة يعلمها الله تعالى أو لاعتبار المكلف أو لتكفير سيئاته أو لمجموع الجميع، ويحسن بالكافر تعجيل عقوبة أو لاعتبار نفسه أو لمصلحة يعلمها الله تعالى أو لمجموع الجميع، والمراد بالقضاء والقدر في هذا الحديث وأمثاله المعنى الذي قضاه الله تعالى وقدره من الإحياء والإماتة والصحة والسقم ونحو ذلك لا نفس لفظ القضاء والقدر، فليس المراد النهي عن التعرض لمعناهما اللغوي ولِكَم يأتي كل منهما وحمل ما ظهر في بعض الآيات عليه فلا معنى للنهي عن ذلك إلا في نحو العوام،ومن يقول في ذلك بمجرد رأيه إذ ما من أحد من العلماء غالباً إلا وقد تعرض وخاض في معرفة معناهما، والله أعلم.
I(1/520)