من هم القدرية؟
أما القَدَرِيَّة: فقد اتفقت الأمة على أنه اسم ذم جاء عن الشارع والسلف الصالح ذمهم ولعنهم والنهي عن مجالستهم وعيادتهم وشهادة موتاهم، وصرنا نترامى به نحن والمجبرة، فنحن نقول: القَدَرِيَّة هم المجبرة لأنهم يقولون في كل من فعل معصية: قُدِّرَ عليه، مع ما سيأتي من الأدلة الدالة على أنهم هم القَدَرِيَّة. وهم يقولون: بل أنتم القَدَرِيَّة حيث تنفون القَدَرَ عن الله ولم تؤمنوا بأحاديثه وتثبتون أن القَدَرَ لأنفسكم، وقد شذ مقال بعض متأخري العدلية كالمَقْبَلِي والسيد العلامة الحسن بن أحمد الجَلاَل ولمح إليه السيد هاشم وعليه بعض مشائخ عصرنا التاركين لعلم الكلام فقالوا: المراد بالقَدَرِيَّة هم الذين يقولون: بأن الأمر أُنُف. بمعنى أن الله لا يعلم الحادثات بعلم سابق وإنما يعلمها بعلم مُسْتَأْنَف حادث عند وجود سببها حادث عند وجودها، وهذا تفسير عجيب وتأويل غريب، فإن القول بأن: الأمر أُنُف. وإن كان باطلاً وقادحاً في التوحيد فلا مناسبة، ولا يتأتى تأويل الأحاديث الواردة في ذم القدرية وتنزيلها عليه وعلى القائلين به ولا تساعده اللغة ولا المعنى:
سَهْمٌ أَصَابَ ورَامِيْه بِذِي سَلَمٍ .... مَنْ بالعراقِ لَقَدْ أَبْعَدْتَ مَرْمَاكَ(1/506)


وأين هذه المسألة من مسألة القَدَر، لأن هذه المسألة من مسائل التوحيد وصفات الذات وهي أن الله تعالى عالم بكل المعلومات ومن جملتها ما سيكون، ومسألة القدر من مسائل العدل وصفات الأفعال على أن الفريقين من العدلية والجبرية لا خلاف بينهم أن المراد بالقدرية أحد الفريقين وهم أهل الأفهام وفرسان الكلام، فمثَلُهم مع هذا القائل كمثل خصمين يدعي كل منهما وقوع الجناية عليه من الآخر، فاعترضهما ثالث وقال: ليس بأحدهما جناية من الآخر وإنما الجناية من فلان على فلان. فإن هذا كلام أجنبي لا سماع له لتضمنه تبرئة الخصمين مع اتفاقهما على عدمها وعلى وقوع الجناية من أحدهما، ولتضمنه الدعوى من أجنبي على أجنبي لا دخل له في تلك الخصومة ولا حضور منه في هذه الحكوم.(1/507)


الأدلة على أن القدرية هم المجبرة
إذا عرفت ذلك فالذي يدل على أن القَدَرِيَّة هم المجبرة من أربع جهات:
الجهة الأولى: من جهة الاشتقاق، وذلك أن هذه اللفظة وهي قولهم: القَدَرِيَّة. مشتقة من القَدَر، والمجبرة يقولون في كل ما صدر عن الإنسان من كفر أو فسق أو غيرهما من سائر المعاصي: قُدِّرَ عليه، فيجب أن يطلق هذا الاسم عليهم لقولهم بما هو مشتق منه، ونحن لا نقول بذلك فلا يصح إطلاقه علينا.
الجهة الثانية: اللغة، وذلك أن الأسماء في اللغة موضوعة لمن أثبت الشيء لا لمن نفاه كالثنوية لمن قال بإله ثانٍ، والوثنية لمن قال بإلهية الأوثان، والطبائعية لمن قال بتأثير الطبع، واليهودية والنصرانية لمن دان بأيهما، ولا يطلق الاسم على من نفى الشيء وإلا لزم أن يسمى جميع المسلمين ثنوية ووثنية وطبائعية ويهودية ونصرانية لأنهم ينفون هذا كله، وبهذا يعرف بطلان ما تمسك به الجلال في حاشيته من أنه يكفي في النسبة أدنى ملابسة، فيقال للقائلين: بأن الأَمْرَ أُنُف قَدَرِيَّة لنفيهم القدر السابق، كما يقال: صِفَاتِيَّة لمن نفى الصفات الخ كلامه. ويلزم عليه ما ذكر أن يقال للمسلمين كافة ثنوية ووثنية إلى غير ذلك مما ينفيه المسلمون، ويلزم عليه أن يقال لمن نفى التوحيد: مُوَحِّدٌ، ولمن نفى نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم: مُحَمَّدِيٌّ، على أن ما ذكره من إطلاق الصفاتية على نفي الصفات لا يُسَلَّم، وإنما المتعارف بين المتكلمين أن الصفاتية أصحاب سليمان بن جرير القائلين: بأن صفات الله تعالى من كونه قادراً وعالماً وحياً ليست معان قديمة كما تقوله المجبرة، ولا أمور زائدة كما تقوله البهشمية، ولا مزايا كما يقوله أبو الحسين، وإنما يقال لها صفات لا توصف بشيء مما ذكر ولا غيره، فتسميتهم بالصفاتية لإثباتهم الصفات لا لنفيهم وصفها كما توهمه، فتأمل.(1/508)


الجهة الثالثة: المناسبة للمعنى، وهو أنا ننظر مَنْ مذهبه المذموم فهو المستحق لهذا الاسم الذميم، ولا شك أن مذهب المجبرة هو المذهب المذموم والاعتقاد الملوم حيث نسبوا كل قبيح في الخارج إلى أعدل العادلين وأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، وذلك أنهم يدينون ويعتقدون أن ما من كذب أو ظلم أو جور أو فسق أو كفور أو طغيان أو فجور يصدر من جهة العبد إلا والله فاعله ومريده ومقدره عليه ومع ذلك فالله يعذبه عليه ويذمه ويلعنه فأي مذهبٍ أشنع من هذا المذهب، وأين يبقى معه للعدل والحكمة والرحمة مطلب؟ وأيضاً فإن مذهبهم يؤدي إلى:
الأياس من روح الله وإلى القنوط من رحمته وإساءة الظن به تعالى، لأن عندهم أن الله هو الذي أغوى الخلق وصدهم عن الدين الذي شرعه لهم وأن له أن يعاقب بغير ذنب وأن يدخل الفراعنة الجنة والأنبياء والمؤمنين النار لأنه غير منهي ولا يقبح منه قبيح.
وأيضاً فإن مذهبهم يؤدي إلى ترك الطاعات والتكاسل عنها والإغراء بالمعاصي والتثبيط عن التوبة والمسارعة إليها، لأن عندهم أن الله هو الفاعل لذلك ولا أثر للعبد في ذلك كله فلا يلزمه مبادرة ولا محاذرة عن معصيته، بل سبيله في ذلك أنه يقول إن قد سبق في علم الله أني سأفعل الطاعة فهي ستحصل فِيَّ لا محالة، وإن قد سبق أني سأفعل المعصية فهي ستحصل فِيَّ لا محالة، فلا يهتم بعد ذلك على فعل طاعة ولا على تجنب معصية، وكذلك يقول إن كنت من أهل النار فلا تنفعني الطاعة، وإن كنت من أهل الجنة فلا تنفعني الطاعة، وإن كنت من أهل الجنة فلا تضرني المعصية، كما حكي أن مجبراً احتُضِر للوفاة وعليه دين فقال لأولاده: امسكوا عليكم أموالكم ولا تقضوا من ديوني شيئاً فقد علمت أني من إحدى القبضتين، فإن أكن في القبضة التي إلى الجنة فلا يضرني المطل، وإن أكن في القبضة التي إلى النار لم ينفعني قضاء الدين.(1/509)


فانظر إلى هذا المخذول كيف استحوذ عليه الشيطان حتى سوَّل له أن الثواب والعقاب لم يكونا متفرعين على موجبهما من الأسباب، وأن من موجب دخول الجنة الإيصاء بالدين وقضاؤه، ومن موجب دخول النار ترك الوصية به وعدم قضائه، بل جعل دخول الجنة والنار على سبيل المجازفة والمعازفة بأن يدخل الله الخلق إلى الجنة والنار قبضة إلى هذه وقبضة إلى هذه، إذاً فليس النبي والمؤمن بأقرب إلى الجنة من الكافر والفاجر، وليس الكافر والفاجر أقرب إلى النار من النبي والمؤمن الطاهر، فنعوذ بالله من الخذلان، ونسأله العصمة عن تسولات النفس والشيطان، وتعالى الله عما يقوله الظالمون علواً كبيراً.
الجهة الرابعة: الأحاديث والآثار الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن السلف الصالح في بيان القدرية وذمهم بأن ننظر من وجد فيه ما تضمنته من الوصف والذم للقدرية فهو المراد بها ومن لا فلا، أخرج أبو نعيم في الحلية والطبراني والسمان وأبو القاسم الحسكاني عن ابن عباس قال صلى الله عليه وآله وسلم: " صنفان من أمتي لا تنالهم شفاعتي لعنهم الله على لسان سبعين نبياً القَدَرِيَّة والمُرْجِئَة، قيل: يا رسول الله من القدرية؟ قال: الذين يعملون المعاصي ويقولون هي من الله، قيل: ومن المرجئة؟ قال: الذين يقولون الإيمان قول بلا عمل " ورواه الأمير الحسين المؤلف عليه السلام عن أنس وحذيفة.
وأخرج أبو داود والحاكم والبيهقي عن ابن عمر وأبي هريرة وجابر قال صلى الله عليه وآله وسلم: " القدرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم ".
وأخرج البخاري في التاريخ "القدرية مجوس هذه الأمة".(1/510)

102 / 311
ع
En
A+
A-