معنى الإغواء
وأما الإغواء: في قوله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام مخاطباً لقومه: ?وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ?{هود:34}، فليس فيه صراحة أنه تعالى قد أراد أن يغويهم أو أنه قد أغواهم، بل غاية ما في الآية الإخبار منه عليه السلام أنَّ نصحه لهم مع استمرارهم على العناد والجدال بالباطل غير نافع، وعلق عدم هذا النفع بما إذا قد علم الله من حالهم أنهم سيصرون ويستمرون على طغيانهم وعنادهم فلا يعطيهم التوفيق والتسديد، وعبر عنه بالإغواء بجامع عدم الوصول إلى النفع ومبالغة في التحذير لهم عن المعاندة المفضية إلى منع التوفيق والتسديد، يزيده وضوحاً ما حكاه الله تعالى عن إبليس: ?رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي?{الحجر:39}، أي خيبتني ولم تعطني التوفيق والتسديد، ويقال لهم: إذا كان نوح عليه السلام مراده ما تزعمون من الإغواء عن الدين والصد عنه فمراد إبليس لعنه الله كذلك، فيكون نوحاً عليه السلام موافقاً لإبليس الخبيث في ذلك الاعتقاد النكيث، وهذا واضح.(1/501)


معاني الفتنة
وأما الفِتْنَة: فهي تأتي بمعنى البَلْوَى: وهو فعل ما عنده يتبين حقيقة الشيء وحالته التي هو عليها، ومنه قولهم: فَتَنْتُ الذهب إذا حَرَّقْتَه ليتبين لك حقيقة طِيْبَ سَنَخِه وجِيَادَتِه من رداءته، ومنه قوله تعالى خطاباً لموسى عليه السلام لقومه: ?قال فإنا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِك?{طه:85}، أي ابتليناهم وامتحناهم بما فعلناه من تمكين السامري اتخاذ عجل من أثر الرسول له خوارأي صوت زيادة في المحنة والبلوى، فإن المحنة والبلوى تحسن من الله تعالى في المواضع التي يريد الله تعالى أن يبين فيها حالة المبْتَلَى كما قال طالوت عليه السلام : ?إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي?{البقرة:249}، فجعل الله ذلك علامة لطالوت عليه السلام يعلم بها من سيتابعه ممن سيعصيه فشربوا منه إلا قليلاً منهم فتبين لطالوت بعد ذلك حالتهم، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان، ومثل ذلك قوله تعالى: ?ألم o أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ o وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ? {العنكبوت:1،2،3}.
وتأتي الفتنة بمعنى:التَّعْذِيب: ?إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ? {البروج:10}، أي عذبوهم.
وبمعنى: الإغْواء عن الدين: ? يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كما أخرج أبويكم? {الأعراف:27}.
وبمعنى: الكُفْر والبَغي والصد عن سبيل الله ?وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ?{البقرة:193}(1/502)


معنى التزيين
وأما التزيين: فالمراد به التحسين والترغيب في الشيء وقد ورد في القرآن تارة مضافاً ?وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ?{النمل:24}، فهو أيضاً علىحقيقته ولا إشكال فيه كما قال تعالى: ?حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ?{الحجرات:7}، وما كان في أمم الكافرين، فالتزيين فيه كناية عن التمكين والتخلية التي هي شرط حسن التكليف وصحته.
ولا يقال: يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد وهو ممنوع.
لأنا نقول: الممنوع أن يسند اللفظ بحقيقته ومجازه إلى جهة واحدة كأن يسند كِلاَ المعنيين إلى كل من أمم المؤمنين والكافرين على أن القاسم عليه السلام والشافعي رحمه الله قد جوزا ذلك، واستدل له الشافعي بقوله تعالى: ?أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ?{النساء:43}، فحمله على اللمس الحقيقي فيجب الوضوء لذلك، وكناية عن الجماع فيجب الغسل.(1/503)


معنى الحجاب والكِنان والوَقْر
وأما الحجاب والكِنَان والوَقْر: فكلها كنايات عن توغل الكفار في العناد والجدال بالباطل والتعامي عن الحق، إذ لا حجاب ولا كنان على الحقيقة لأنهما من الأجسام الكثيفة ولا جود لذلك عند أي كافر، وأسند إلى الله تعالى مبالغة في توغلهم في الكفر والعناد حتى كأن ذلك فيهم أمر جِبِلِّي وخَلْقِي، وليس القصد إلا التمثيل والتشبيه بمن عليه كنان فلا يصل إليه صوت الداعي له، أو بينه وبينه حجاب فلا يبلغه ذلك الصوت، أو في أذنه وَقْر فلا يسمع ذلك الصوت، يدل عليه أنه تعالى حكى في بعض الآيات أن ذلك من قول الكفار يمثلون حالهم بذلك أو أنه جعله لهم لسان حال وذلك قوله تعالى: ?وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ?{فصلت:5}، وفي بعض الآيات أسنده إلى نفسه تعالى ?وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا?{الإسراء45}، ?وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا? {الأنعام:25}، وفي بعضها صرح بحرف التشبيه الدال على التمثيل دون الحقيقة: ?وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ o يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ?{الجاثية:8،7}، فعلم أن ليس المراد إلا التمثيل والتشبيه بحالهم مبالغة في ذمهم وفي الإخبار بعنادهم كما مَثَّلَهم تارة بالأنعام، وتارة بالذي ينعق بما لا يسمع، وتارة بمن هو في مكان بعيد، وأبلغ من الجميع في الذم لهم والإخبار عن عدم انتفاعهم بالمواعظ ما أطلقه عليهم من أنهم: صم بكم عمي فهم لا يبصرون.(1/504)


تنبيه: اعلم أنه لما انقضى الكلام على ما ذكر من المتشابه وكان من جملته لفظة: القدر، لزم بيان الفرقة القَدَرِيَّة وما ورد من ذمهم، وبيان ما المراد من الأحاديث الدالة على وجوب الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره.(1/505)

101 / 311
ع
En
A+
A-