معاني الهدى
فالهدى: بمعنى: الدُّعَاء إلى الخير والترغيب فيه ?وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ? {الشورى:52}.
وبمعنى: البَيَان والدَلاَلَة: قال تعالى: ?وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ? {فصلت:17}.
وبمعنى: زيادة تنوير البصيرة لمن انقاد وأذعن لمبادىء الخير من إدراك الحسن والقبيح العقليين وأجاب بالمساعدة وعدم المعاندة والنظر في معجزات الرسل وأصول ما جاؤوا به عن الله تعالى من الكتب والشرائع ونحو ذلك من الأمور الكلية التي هي مباني الأحكام الجزئية العقلية منها والشرعية، ومن عاند وجادل بالباطل لم يعط ذلك التوفيق وتنوير البصيرة والهدى الزائد على البيان والدلالة وهو تنوير البصيرة، وقد أشار الله تعالى إلى هذين المعنيين اللطيفين إلى الأول بقوله تعالى: ?وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى?{محمد:17}، ?وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا?{العنكبوت:69}، ?إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا?{الأنفال:29}، وإلى الثاني بقوله تعالى: ?فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ? {الصف:5}.
وبمعنى: الثَّواب: ?إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الْأَنْهَارُ? {يونس:9}.
وبمعنى: الحُكْم والتَّسْمِيَة: قال:
ما زالَ يَهْدِي قَوْمَه ويَضِلُّنَا .... جَهْراً ويَنْسِبُنَا إلى الفُجَّارِ(1/496)


أي ما زال يحكم لقومه بالهدى ويسميهم به ويحكم علينا بالضلال ويسمينا به، فيجوز أن يقال: إن الله يهدي المؤمنين بمعنى يثيبهم أو يزيدهم بصيرة أو يحكم لهم بالهدى ويسميهم به، ويجوز أن يقال لا يهدي المجرمين -أي لا يثيبهم- أو لا يزيدهم بصيرةً وتنويراً زائداً على ما يجب من الهدى العام لكل المكلفين وهو البيان والدلالة والدعاء إلى الخير، ولا يحكم لهم بالهدى ويسميهم به، ولا يجوز أن يقال: إن الله يهدي المؤمنين ولا يهدي المجرمين بمعنى خلق الإيمان أو الكفر خلافاً للمحبرة بناءً على أصلهم.(1/497)


معاني الضلال
والضلال بمعنى: الإِغْوَاء عن طريق الحق ?وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى?{طه:79}.
وبمعنى: الهَلاَك: ?وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ?{السجدة:10}، أي هلكنا.
وبمعنى: العَذَاب والنَّكَال: ?إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ?{القمر:47}.
وبمعنى: سَلْب التَّنْوِيْر والتَّوْفِيْق: ?وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ?{إبراهيم:27}.
وبمعنى: الحُكْم والتَّسْمِيَة: ما زال يهدي قومه ويضلنا البيت.
وبمعنى: بَيَان ضَلال المُضِّل: ?يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ?{البقرة:26}، أي يبين به، أي بضرب المثل السابق في الآية ضلال كثير وهداية كثير، ويستقيم أن يكون بمعنى يحكم به ويسمي كثيراً بالضلال لجحدهم وعنادهم، وكثيراً بالهدى لإنصافهم وانقيادهم، فيجوز أن يقال إن الله تعالى يضل الظالمين بمعنى لا يزيدهم بصيرة وتنويراً أو أنه يحكم عليهم بالضلال ويسميهم به، أو أنه يبين ضلالهم، أو أنه يعذبهم ويهلكهم لا بمعنى يغويهم عن الدين أو يخلق فيهم الضلال من الكفر أو الفسق خلافاً للمجبرة، وقد تشبثوا بالهدى والضلال بظواهر آيات من المتشابه كقوله تعالى: ?وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّoومن يضل الله فما له من هاد?{الزمر:36،37}.(1/498)


قلنا: ليس في الآية ما يدل على المدعى وهو خلق الكفر أو الفسق في المجرمين أو الإيمان والطاعات في المؤمنين، وإنما في الآية ذكر ضلال وهدى مجملين غير مبين المراد منهما فتبقى في حيز المتشابه، ويجوز أن يكون المراد: من يضلل الله من يحكم عليه الله بالضلال أو يسميه به بسبب اجترامه كما تقول: فلان يُفَسِّقُ فلان -أي يحكم عليه بالفسق ويسميه فاسقاً-، أو من يبين ضلاله أو من يسلبه التنوير والهدى الزائد على ما يجب من البيان والدلالة، أو من يعذبه ويعاقبه فلا هادي له -أي من يحكم له ويسميه بالهدى صادقاً فيما حكم له وسماه به-، أو فلا مبين له يبين هدايته، أو فلا مثيب له، أو فلا منور لبصيرته وموفق له، وعكس هذا في المؤمن الذي حكم الله له بالهدى ونَوَّرَ بصيرته وأثابه وبين هدايته فما له من مضل يفعل به أضداد ذلك، ولنستكفي بذكر هذه الآية عما سواها لأنها أعظم شبهة في هذا الباب.(1/499)


معاني الطبع والختم
وأما الطبع والختم: فالأظهر أنهما تمثيل وتشبيه لحال المعاند والمتعامي عن التفكر الموصل إلى العلم بالحق والعمل بموجبه بحال من طبع على قلبه وختم عليه، لأن حقيقتهما المعقولة منهما بحسب اللغة وهي التغطية والسد تقول: ختمت الإناء -أي غطيت فاه وسددته-، وقد يطبع عليه بطابع تقول: ختمته وطبعت عليه مبالغة في السد، لا قائل بأن ذلك في قلوب الكفار والفساق على حقيقته، بل من العدلية من يجعله تمثيلاً واستعارة وأسند إلى الله تعالى مبالغة في توغلهم في العناد والضلال حتى كأنه فيهم جِبِلَّة خَلْقِيَّة كما قال الشاعر:
كيف الرَّشَادُ وقد صِرْنَا إلى ملأٍ .... لَهُمْ عَنِ الرُّشْدِ أَغْلاَلٌ وأَقْيَادُ
فكما أنه لا أغلال ولا أقياد لمن أراد الشاعر ذمهم وإنما أراد التشبيه والتمثيل والمبالغة في تعاميهم عن الرشد كذلك لا طبع ولا ختم، وإنما المراد ما ذكر من التمثيل والتشبيه عن ختم وطبع على قلبه حقيقة، ومنه قول الآخر:
خَتَمَ الإلهُ على لسانِ عذافرٍ ....خَتْماً فَلَيْسَ عَلَى الكَلاَمِ بِقَادِرِ
ومنهم من يقول:إنه كناية عن سلب التنوير والتوفيق والهدى الزائد على ما يجب من البيان والدلالة.
ومنهم من يقول: إن ذلك نكتة سوداء - علامة - في قلب الكافر للملائكة يعلمون بها سوء ما انطوى عليه، لأنه لا يعلم منطوى القلوب إلا الله تعالى فجعل ذلك علامة للملائكة عليهم السلام.
وأهل الجبر يجعلون ذلك كناية عن خلق الكفر والشقاوة وسلب الإيمان والمنع منه بناءً على أصلهم، فقد خرجت لفظة الطبع والختم عن حقيقتهما اتفاقاً، فلم يبق إلا حملهما على أبلغ الوجوه وأدخلها في البلاغة والإعجاز وهو الوجه الأول، ولا مانع من الوجه الثاني والثالث غير أن الأول أفصح وأبلغ، وأما الوجه الذي حمله عليه أهل الجبر فهو بناءٌ على خلق أفعال العباد وإرادتها منهم وقد مر إبطاله وسيأتي مزيد على ذلك في مسألة الإرادة إن شاء الله تعالى.(1/500)

100 / 311
ع
En
A+
A-