في المنهاج فلم يحك القول بوجوبها شكراً إلا عن أبي علي في أحد قوليه وقال: إنه باطل، والقول الآخر عنه أنها وجبت لأن وجه وجوبها قبح تركها، وهو الجهل بالله تعالى والظن ونحوهما، وحكى شيخنا صفي الإسلام رحمه الله تعالى القول بوجوبها شكراً عن بعض أئمتنا عليهم السلام، ولم يبينه ولعله أراد القدماء منهم كما حكاه شارح الأساس، ثم حكى رحمه الله عن المؤيد بالله، وأخيه الناطق بالحق أبي طالب، والمنصور بالله، والأمير المؤلف، والإمام يحيى، والمهدي عليهم السلام وأكثر المتأخرين وجمهور المعتزلة أن الشرائع ألطاف في الواجبات العقلية، والشكر يعني العقلي هو الاعتراف فقط، ثم قال: فمعرفة الله وجبت لأنها لطف للمكلفين في القيام بما كلفوه، ثم قال: ولا يخفى أن كون الطاعات شكراً لا ينافي أن الشرائع ألطاف، فإن الهادي عليه السلام والقاضي وابن متويه مصرحون بأنها شكر مع أن الشرائع ألطاف، وحكى ابن حابس رحمه الله تعالى القول بأن معرفة الله وجبت للشكر لا لغيره - يعني لا لأجل اللطف و لا لغيره - وأن الطاعات شكر عن الهادي وقدماء العترة عليهم السلام،وحكي عن المهدي وكثير من المعتزلة وبعض صفوة الشيعة أن الشرائع ألطاف في العقليات، وأن الشكر الاعتراف فقط إلى أن قال: وكلامهم باطل من أصله لقوله تعالى: ?اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا? {سبأ:13}، وإجماع أهل العربية على أن الشكر قول باللسان واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان في مقابلة النعمة.(1/46)


قلت: فهذه حكاية الأقوال عن العدلية القائلين بوجوب معرفة الله تعالى عقلاً، وظاهرها الخلاف بين الأئمة عليهم السلام، هل وجبت لأجل الشكر فقط أم لأجل اللطف فقط؟ ولا يُسلم أن بينهم خلافاً متحققاً، وإن كان في كلام القرشي ما يدل على أنها وجبت عندهم لأجل اللطف فقط، حيث لم يجعلها شكراً إلا عن أبي علي، وفي كلام ابن حابس التصريح بعكس كلام القرشي عن القدماء منهم، وهو ظاهر حكاية شارح الأساس عنهم، ولا يُسلم أن بين المسألتين تنافي فإنه لا مانع من القول بوجوب المعرفة لما فيها من الشكر واللطف معاً، ولا تصريح في كلام الأئمة عليهم السلام بالتنافي ومنع أحدهما والاقتصار على الآخر، لأن القدماء منهم على ما حكاه شارح الأساس وغيره مصرحون بأنها شكر ولم يعترضوا لنفي كونها لطفاً، والمتأخرين على حسب ما حكي يقولون بأنها لطف ولم يتعرضوا لنفي كونها شكراً، والأدلة حسبما ذكرها شيخنا صفي الإسلام رحمه الله في سمط الجمان عقليها ونقليها قد دلت على صحة القولين معاً، وتعليل الحكم بعلتين أقوى في ثبوته من الاقتصار على إثباته بعلة واحدة، لأن العلة الواحدة ربما يتطرق إليها النقض فيبطل الحكم المقتصر في تعليله عليها، وهذا واضح لمن تأمله، فإذا كان الحق وجب حمل كلام الأئمة عليهم السلام عليه لأنهم أهل الحق وخلفاء الصدق وقرناء الكتاب وأمان الأمة من نزول العذاب، وقد تركت ذكر الأدلة على كل من القولين خشية التطويل، واستكفاء بما ذكره شيخنا رحمه الله تعالى، لكني أزيد المقام إيضاحاً بذكر تفصيل لم أقف عليه لأحد منهم صراحة، وإنما لاح من أقوالهم الجميع من مجموعه لا من جميعه، وهو في هذا المبحث وغيره.(1/47)


فأقول وبالله أصول: اعلم وفقك الله تعالى وإيانا أن نعم الله سبحانه وتعالى لا يقادر قدرها، ولا يعلم حصرها إلا الله تعالى وقد قسمها أهل المعقول إلى قسمين، وعبروا عنها بقولهم: أصول النعم وفروعها، ثم قالوا: فأصول النعم ست: خلق الحي، وخلق حياته، وخلق قدرته، وخلق شهوته، وتمكينه من المشتهيات، والسادسة وهي خاصة بالمكلف وهي: خلق عقله كاملاً، ثم قالوا في فروعها: وأما فروعها فلا تعد لقوله تعالى: ?وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا?{إبراهيم:34}، وإنما جعلت الست المذكورة أصولاً لأنه لا يتحقق الإنعام بما عداها إلا بعد حصولها فكانت أصولاً، وإليها يرجع كل ما عداها من النعم فكانت فروعاً، ومرادهم بقولهم خلق الحي وخلق حياته، يعنون إيجاده من العدم على صفة الحياة المقتضية لصحة الإدراك ليتحقق الإنعام بإدراك وتناول المنعم به فيدخل في ذلك خلق الحواس الخمس التي هي: السمع والبصر والشم واللمس والطعم، فكان صواب العبارة خلق الحي وخلق حواسه، لأنه قد أغنى عن ذكر الحياة قولهم خلق الحي، ولعله تصحيف في نقل المتأخرين عن واضعي البحث في المسألة، ويلحق بذلك الإلهام لما فيه نفع البدن فتميل إليه الطباع والنفوس، وما فيه مضرته فتنفر عنه ليكون بذلك سلامة الحي واستمرار وجوده ما شاءه الله من البقاء، وهو مشترك بين الإنسان وغيره من سائر الحيوانات إلا أنه يعبر عنه في الإنسان بأن يسمى مع ذلك دراية وعلماً، وفي سائر الحيوانات إلهاماً وإدراكاً، وإنما جعلت الفروع لا تحصى لأن الست المذكورة يدخل فيها أو في أغلبها مالا عَدَّ له من الفروع، فإن القدرة جنس يدخل تحتها القدرة على القيام، والقدرة على القعود، والقدرة على الذهاب، والقدرة على المجيء، والقدرة على كثير من الأعمال كالبناءات والحراثات والصناعات المختلفة والمؤتلفة العجيبة والاستخراقات الغريبة مع تكرر ذلك في الأوقات والأمكنة مع تمكين المكلف من اختيار ما فيه النفع(1/48)


فيفعله أو الضرر فيتركه،وكذلك الشهوة مع تفنن المشتهيات واختلافها مأكلاً ومشرباً ومطعماً وملموساً ومشموماً وكثرة أصناف المعقولات وأفرادها، فإنه إذا تفكر الإنسان في ذلك عجز عن حصر بعضها وأدناها فضلاً عن كلها وأقصاها، فوجب شكره تعالى على ذلك وجوباً عقلياً ضرورياً، وقد عُدَّ من علوم العقل الضرورية فلا ينكره إلا جاحد مكابر أو ناقص عقل أو قاصر، ومن ثمة ورد القرآن بذكر تارك الشكر وبالإخبار بوجوبه ولزومه لأنه قد علم عقلاً، ولو كان شرعياً فقط كما يزعمه أهل الجبر لجاز عليه النسخ كما شأن الشرعيات.(1/49)


الواجبات التي كلف الله المكلفين بها
ثم أن الواجبات التي كلف الله المكلفين بها على ثلاثة أضرب بالنسبة إلى حكم العقل فيها وإدراكه إياها وعدم ذلك:
الضرب الأول: يحكم العقل بلزومه وتحتمه على المكلف المنعم عليه بكل حال ولا يبيح إسقاطه عنه في حال من الأحوال، وذلك ما يتعلق بفعل القلب فقط، وهو معرفة المنعم تعالى والاعتراف له بأنه منعم، فيحكم العقل بلزوم اعتقاد حصول النعمة وعظمها، وعدم جواز جحد القلب لها.
الضرب الثاني: يحكم العقل بوجوبه، ولزوم فعله أو تركه، واعتقاد ثبوته في نفسه وعدم جواز جحده بالقلب، وذلك ما يتعلق بفعل الجارحة كرد الوديعة وقضاء الدين والشكر باللسان والأركان وترك الظلم والكذب والعبث والسفه، فهذه يحكم العقل بوجوبها ولزومها، ولكن ليس كالضرب الأول لأنه قد يعرض له ما يبيح ترك رد الوديعة وقضاء الدين والشكر باللسان والأركان، ويبيح فعل الكذب والعبث والسفه وبعض الظلم من إكراه ظالم أو معارضة مفسدة كأن تكون الوديعة أو الدين لعاقل ثم جن، فإنه لا يجوز ردهما إليه إذا خشي ضياعهما لديه بل إلى ولي ملكه، وقيد الظلم بإضافة البعض إليه للاحتراز عن صورة فلا يبحيها الإكراه من الظالم وذلك كأن يتوعد بالقتل إن لم يقتل آدمي محترماً كالمسلم والذمي، فإن ذلك لا يجوز ولو خشي على نفسه القتل لأن حرمة قتلهما على سواء، فلا يجوز له دفع البلوى النازلة به إلى غيره بل يصبر ولعل الله سبحانه سيجعل له مخرجاً وينجيه منه، فهذا الضرب يجوز عند الإكراه أو الضرورة الملجئة أو معارضة المفسدة المخالفة فيه بالفعل أو الترك دون القلب حيث لا يمكن في أفعال القلب شيء من ذلك، ويعبر عن الضربين جميعاً بالواجبات العقلية لقضاء العقل بهما كما ترى.(1/50)

10 / 311
ع
En
A+
A-