القول في شروط الإمام والصفة التي يجب أن يكون عليها
أعلم أن الإمام لا بد أن يكون متميزاً على سائر الناس لأنه بعد انعقاد الإمامة يكون أفضل الناس، وإنما النظر فيمن نص عليه أمير المؤمنين والحسنين عليهم السلام، هل يعتبر الشروط فيهم أولا.
ذكر القاضي عبد الله الدواري: إن إمامتهم لما ثبتت بالنص لا تحتاج إلى شروط، قال: فلو قدَّرنا أنه لم يكن فيهم كل الشروط أو بعضها لم يقدح ذلك في إمامتهم، وإن كان معلوم أنها فيهم أكمل.
قلت: هذا وهم لأنه ما ثبت اشتراطه في حق الإمام، وكانت الإمامة تتوقف عليه فلا بد منه ولا سبيل إلى بطلان اشتراطه في حق إمام، ونقول لا يجوز أن ينص إلا على من هو كامل.
فإذا وقع النصَّ، دلَّ على كمال الشرائط، فلا تفتقر إلى البحث عنها، إذ لا يجوز أن ينص الحكيم (على) من هي مختلة فيه.
وليس النص على الإمامة بأبلغ من إظهار المعجز على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
ومن المعلوم أنه لا يجوز أن يقع الوحي، ويظهر المعجز، إلا على من جمع الشرائط التي لا بد أن يكون الإمام عليها، فإن فرض أن النص وقع على من هو خال من بعض ما ذكر اشتراطه، دل على أنه غير شرط، وأن شروط الإمامة لا تتوقف عليه.
واعلم أن شرائط الإمام تنقسم إلى: خلقية، واكتسابية.(1/36)
أ - شروط الإمام الخلقية
فأما الخلقية: فأن يكون ذكراً، حراً، بالغاً، عاقلاً، ذا منصب مخصوص فالأربعة الأول متفق عليها، ومجمع على اشتراطها، قال الإمام المهدي -عليه السلام-: لا يقدح في الإجماع على ذلك خلاف العباسية.
وقولهم: بأن طريقها الإرث، وأنه يستلزم استحقاق الطفل والمرأة لها، فإنه قول حادث لا إلتفات إليه، ولا تعويل عليه، ولأن المقصود بالإمام يتوقف على ذلك، لأنه (إن) لم يكن على هذه الأحوال، لم يتمكن من التصرفات المقصودة منه، ولا يكمل فيها، ولأن المرأة فرض عليها الاحتجاب، وعدم الخروج من الجلباب، وأن لا تسافر إلا بمحرم مرضي،ولا تتمكن من مباشرة الناس ومخالطتهم على الوجه السوي، وصوتها قد يحرم استماعه، ومناجاتها ومخالطتها قد يفضي إلى أمور محظورة.
ولقد بلغ أن امرأة كانت لها نهضة وفراسة وعلو همة، وكانت تقهر الأعادي، وتأسر الرجال، فأسرت مرة أسيراً وشدت وثاقه، وأحرزته في دارها، وكان يرقد معها في منزلها، فكان من بعد مدة أن ظهر حملها، وعلقت منه، فسئلت؟ فقالت: السبب قرب الوساد، وطول السواد، فهل مثل هذا الجنس يصلح للنظر في حال الأمة عموماً، وتجهيز الجهاد والغزوات، وتسهيل الحجاب، والنزول لأهل الحاجات، ونحو ذلك.
وأما الطفل والمملوك والمجنون، فليس إليهم تولي أمر نفوسهم فضلاً عن أمر غيرهم.
وأما المنصب فمذهب أكثر الأمة اعتباره، وذهبت الخوارج إلى صحة الإمامة في جميع الناس ما خلا المماليك، وروي مثل هذا عن النظام، ورواه الجاحظ، عن كثير من المعتزلة.(1/37)
وقال به طائفة من الصحابة، منهم: سعد بن عبادة وغيره، من الأنصار، ولعمر بن الخطاب كلام يقضي بأن هذا رأيه، وهو قوله: لو كان سالم مولى حذيفة حيا ما خالجتني فيه الشكوك، وبه قال نشوان بن سعيد، وزعم أنه أعدل الأقوال، وبالغ ضرار وغلا.
فذهب إلى أن كون الإمام من الأعاجم أولى من أن يكون من غيرهم، لأن إزاحته عنها أيسر إذا دعت حاجة إلى ذلك.
والقائلون باعتباره اختلفوا، فقالت المعتزلة، والصالحية ن الزيدية، فيما رواه عن الصالحية ابن لملاحمي، والفقيه حميد وغيرهما. وهو قول طوائف أهل الجبر والأرجاء: يجب أن يكون قرشياً.
وقال الشيخ أبو علي وهو مذكور في (المحيط): إذا لم يكن في قريش من يصلح للإمامة صحت في غيرهم.
وقال جمهور الزيدية والإمامية: يجب أن يكون فاطمي الأب، أو الأم والأب، قيل (الإمام يحيى بن حمزة): عن قوم (من) زيدية خراسان: يجوز أن يكون الإمام عباسي الأب، فاطمي الأم.
قال: وهذا قول محدث، قد وقع الإجماع من أئمة العترة والزيدية على خلافه.
والذي استدل به على اعتبار المنصب على سبيل الجملة، إجماع الصحابة على اعتباره بعد منازعة الأنصار لقريش، وطلبهم أن يكون فيهم لما هم عليه من السالفة الحسنة، فلما احتج أبو بكر عليهم بالقرابة من رسول الله صلى الله عليه وآله قبلوا ذلك واستسلموا له وبايعوه وانقطع الخلاف، واستدل بثلاثة أحاديث عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-:
الحديث الأول: قوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((قدموا قريشاً ولا تقدموهم ، الأئمة من قريش)) فلو ثبت إمام من غيرهم لم يصح العموم.(1/38)
الحديث الثاني: قوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((الولاة من قريش ، ما أطاعوا الله واستقاموا لأمره)).
الحديث الثالث: قوله -صلى الله عليه وآله وسلم: ((قدموا قريشاً ولا تؤخروهم )) فلو أقيم إمام من غيرهم، لكان فيه ارتكاب ما نهى عنه من تأخيرهم، والإخلال بما أمر به من تقديمهم، واحتج غير المعتبرين له بأنه يعلم ضرورة (إمكان) قيام إمام (غير) قرشي، وجمعه للشرائط، وإمكان قيامه بما ينصب الإمام لأجله ولا دليل على اعتباره.
وأما الإجماع فغير مسلم فإن الأنصار لم تنقطع منازعتهم في ذلك، ولا أذعنوا فيه ولا اعترفوا بالخطأ، وبايع بعضهم سعد بن عباده، ولم يقتض بطلان أمره بعد أن بايعه كثير من الأنصار إلا حسد ابن عمه بشير له ومسارعته إلى بيعة أبي بكر، فكان أول من بايعه فاتبعته الأنصار، وازدحموا على بيعة أبي [بكر]ورفض المبايعون منهم سعد بيعته وكان سعد حينئذ مريضاً، فقيل: لا تطؤا سعداً ولا تقتلوا سعداً.
فقال عمر: اقتلوا سعداً قتله الله، فقام قيس بن سعد بن عباده، فلزم بلحية عمر وقال: لو نذرت منه شعرة لأخذت ما فيه عيناك.
وقال سعد لعمر: والله لولا المرض، لتسمعن لسعد زئيراً كزئير الأسد، يخرجك منها إلى أصحابك إلى حيث كنتم أذلة صاغرين، وما بايع سعد أبا بكر ولا عمر، وخرج إلى الشام مغاضباً لقومه حين خذلوه فمات فيه في خلافة عمر، وللأنصار أشعار تدل على عدم الرضا والتأسف لخذلان سعد، وتقضي بعدم انقطاع نزاعهم، قالوا:(1/39)
وأما الأحاديث الثلاثة فهي أحادية غير متواترة ومعارضة بما يقضي بخلافها، كقوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((أطيعوا السلطان ولو أمر عليكم عبد حبشي أجدع)).
وقول عمر في سالم وقد تقدم ذكره، قال المهدي -عليه السلام-: وهذه الاعتراضات فادحة بغير تردد سيما إذا لم يكن الخبر الأول متواتراً، قال: وإن حكمنا بتواتره فليس دلالته قطعية إذ لا تصريح فيه بتحريمها في غيرهم ويحتمل الأولوية.
قلت: وأما الخبران الأخران فدلالتهما أضعف، وهما دون الأول في الاشتهار، قيل (القاضي عبد الله الدواري): وقد ذكر بعض أئمة الحديث، أن الخبر الأول موضوع لا أصل له، وروى بعض من كان في السقيفة: إن هذا الخبر لم يذكره أبو بكر ولا احتج به، ولو كان صحيحاً ما قال عمر في سالم ما قال، واحتج أصحابنا بإلإجماعين:
أحدهما: إجماع العترة على ذلك وإجماعهم حجة.
والثاني: إجماع الأمة على أنها جائزة ولا إجماع في حق غيرهم، وهو حكم شرعي، لا يثبت إلا بدليل، ولا دليل على ثبوت أهلية الإمامة لكل الناس ولا لجملة قريش إذ لا قرآن في ذلك ولا سنة متواترة ولا صريحة المعنى بما تقرر ولا إجماع.
وأما الفاطميون فالإجماع (منعقد) في حقهم، فإن القائلين بأنها في جملة الناس أو في جملة قريش قائلون بذلك في حقهم. وهذا الاستدلال كما ترى.
أما أولاً: فلأن تحقق الإجماع في حق الأمة، وفي حق العترة مشكل، كما سبقت الإشارة إليه فلا إجماع.
وأما ثانياً: فلأن خلاف الإمامية كافة تستمر في ذلك ومنهم طائفة من العترة فلا إجماع.(1/40)