قُلْتُ: المناسب لمعنى الدعوة أن يدعو الإمام إلى طاعته وإعانته ومظاهرته، مخبراً بتأهله لتكاليف الإمامة، وانتصابه لها، وما عدا ما ذكر فزوائد ترجع إلى شروط صحتها، وما لا بد لصاحبها منه، والله أعلم.
وأما العقد والاختيار فصفته: أن يقول العاقدون للإمام: نصبناك لنا إماما، أو رضيناك أو اخترناك، وعقدنا لك الإمامة، قيل (القاضي عبد الله الدواري): ويقبل ما وجهوا إليه من ذلك.
قُلْتُ: أما الإتيان بلفظ القبول فلا يشترط، وإنما القصد أن يقبل ثقتهم إياه، بقول أو فعل، أو شروع مما يفهم به عدم الرد، ولا يعتبر منهم زيادة على ما ذكر.
قال الحاكم: وصفقة اليد ليست شرط في العقد، وإنما الشرط أن ينطق كل منهم بنصبه إماماً، أو ينصبه واحد منهم، ويرضاه الباقون، وإن لم يصدر منهم كلام، واختلف في عدد الناصبين.
فالذي ذهب إليه أبو علي، وأبو هاشم، وقاضي القضاة، والجمهور من معتبري العقد والإختيار، أنه لا بد أن يكونوا خمسة اعتباراً بالعقد لأبي بكر.
فإن العاقدين له عمر، وأبو عبيدة، وعبد الرحمن بن عوف، وأسيد بن حضير، وبشير بن سعد. وفي فائق ابن الملاحمي الخمسة: عمر، وأبو عبيدة، وبشير بن سعد، وأسيد بن حضير، وسالم مولى أبي حذيفة.
وقيل: لا بد أن يكونوا ستة، كعدِّ أهل الشورى، الذين جعل عمر الأمر شورى بينهم، وهو ضعيف، لأن قصد عمر أن يعقد خمسة منهم للسادس إذ لا يتهيأ غير ذلك.
ولذلك أحتج به لاعتبار الخمسة، وقيل: أربعة عدد شهود الزنا.(1/31)


وقال أبو القاسم البلخي في آخرين ثلاثة: أن عمر قال في أهل الشورى: فإن افترقوا في الرأي نصفين، فالثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف.
وقال سليمان بن جرير وآخرون معه: يكفي اثنان قياساً على الشهادة، وعن بعضهم: يكفي واحد، وعزا هذا إلى الشيخ أبي الحسين، وابن الملاحمي، ورووا أنه عن الشيخ أبي علي.
وفي (شرح مقدمة البحر)، عن الشيخ أبي القاسم: أنه يكفي بيعة واحد للإمام، وإن لم يرض غيره، فأما مع رضا أربعة عند تعيين الخمسة فذلك كاف اتفاقاً بينهم، وذكر أن أبا القاسم احتج بأن بشيراً بايع أبا بكر قبل استقرار رضا الجماعة، فرأوا أن أمره قد ثبت ببيعته فبايعوه، وأن العباس قال لعلي كرم الله وجهه في الجنة: أمدد يدك أبايعك قبل أن يراضيَ غيره في ذلك.
ولم ينكر عليه، وأن عبد الرحمن بايع عثمان، قبل مراضاة بقية أهل الشورى، وقد رد ما ذكره بأن أبا عبيدة، وبشيراً، بايعا أبا بكر بعد مراضاة بقية الخمسة، وأن ابن عوف ما بايع عثمان إلا بعد مراضاة بقية أهل الشورى.
وقد سبق أنه يكفي قول العاقدين: نصبناك أو رضيناك، وإن لم تقع بيعة ولا صفقة يد.
وقال الإمام المهدي -عليه السلام-: ظاهر أخبار السقيفة، تقضي بأن النصب لا يكون إلا بالبيعة، والبيعة إعطاء العهد على أقرب الأمور، واستظهر عليه بقول أبي بكر: بايعوا أحد هذين الرجلين، ولم يقل انصبوا.(1/32)


وبقول العباس رضى الله عنه لعلي كرم الله وجهه في الجنة: امدد يدك أبايعك، وبالآيات المذكور فيها البيعة كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ }[الفتح: 10] {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ }[الممتحنة: 12] وبمبايعة الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- (بشماله) إصفاقاً بها على يمينه، عن عثمان في بيعة الرضوان فأخذ من ذلك أن العقد بالبيعة بصفق اليد على اليد، ووضعها فيها.
قال: وهذا يقتضي أنها لا تنعقد بمجرد قول العاقد: نصبتك، ونحوه.
قُلْتُ: وهذه مآخذ ليست بالقوية، والذي فعل يوم السقيفة إنما هي صورة فعل لم يدل دليل على اعتبارها، وتوقف عقد الإمامة عليها، وذكر المبايعة في قصة بيعة النساء وبيعة الحديبية للدلالة فيها على أن مثل ذلك يعتبر في انعقاد الإمامة.
تنبيه: حكى الإمام يحيى –عليه السلام- في كيفية البيعة، أنها إنما كانت مجرد لمس الكف، بعد المواطأة على ما تعاقد عليه المتبايعان، من دون لفظ يقع عند وضع اليد على اليد. انتهى.
والظاهر أنه لا بد في البيعة من النطق، وأنها من قبيل القسم والعهد، وبذلك جرت العادة، وليس لوضع اليد حكم يلزم، ولا يقع به انعقاد المبايعة، وتأكيد أمرها.
وإنما ينضم إلى العهد تصويراً للترابط والتلازم. والله سبحانه وتعالى أعلم.
تنبيه: لا يعتبر في العاقدين للإمامة وغيرها كونهم من أهل الاجتهاد، وإنما يعتبر منهم العدالة، وكونهم غير مخلين بما يلزم علمه من أصول الدين وغيره، وعلمهم بالأوصاف المعتبرة في المنصوب وصلاحيته لذلك.(1/33)


قال القاضي: ذكر معنى ذلك في (المحيط)، ودليله أمر العاقدين لأبي بكر، وأهل الشورى فإنهم لم يكونوا كلهم أهل اجتهاد، وكانوا على الصفة التي ذكرنا.
تنبيه آخر: وهل يشترط إجماع العاقدين عند العقد والرضى به أولى.
قال بعض القائلين به: لا بد من إجماعهم، لأن العقد الذي احتج به، ووقع في زمن الصحابة-رضي الله عنهم-، كان كذلك، وذكر ذلك القاضي أبو مضر. وقال بعضهم: لا يشترط ذلك، ويصح مع كون كل واحد منهم عقد له وحده أو رضي به، ولو كان غائباً بأن يأتي بذلك كتابه أو رسوله.
تنبيه آخر: لو وكل عدد العقد المعتبرون غيرهم أن يعقدوا له، وينصبه أو واحد منهم، هل يصح ذلك ويكفي أو لا؟
قيل: لا بد أن يتولوا العقد، ولا يصح أن يوكلوا غيرهم، وقال محمود الملاحمي: صفة عقد الخمسة أن يوكلوا واحداً منهم ليعقد أو يرضوا بعقده، لا أن يعقدوا جميعاً.
وقال في (المحيط): المعتبر في ذلك رضا الناصبين، كان بعقدهم جميعاً أو عقد أحدهم ورَضِيَ الباقون، قال: ولا يحتاج في ذلك إلى إيجاب وقبول ولا اعتبار بالضرب باليد وضرب الكف على الكف.
تنبيه آخر: هل لمن عقدت له الإمامة أن يعزل نفسه، ويعتزل عما ولي فيه في وجه الناصبين أو في وجه عدد غيرهم، كعددهم ممن يصلح للعقد، كما أن هذا الحكم ثابت لكل منصوب في غير الإمامة؟
قيل (القاضي عبد الله الدواري): يحتمل ذلك، ويحتمل خلافه مهما كان واجداً للأعوان على تنفيذ الأحكام الإمامية أو شيء منها، وهو الظاهر من كلام أئمتنا عليهم السلام.(1/34)


وأما الناصبون فهل لهم أن يعزلوا من نصبوه أو لا؟ أما في غير الإمام فقيل: تصح، وقيل: لا.
وأما الإمام فلا يصح ذلك فيه، لأنه بالنصب قد صارت له الولاية عليهم، والحكم فيهم بما راءه، لا أن الحكم لهم عليه، وهذا كله مع استقامة حال المنصوب.
قيل: فأما مع اختلاف حال المنصوب إماماً أو قاضياً، بحيث لو اطُلِعَ عليه قبل العقد لم يعقدوا له فلهم أن يعزلوه بل لا يبعد انعزاله من غير عزل. والله أعلم.(1/35)

7 / 60
ع
En
A+
A-