حجة أصحابنا على اعتبار الدعوة، إجماع العترة، قيل (المهدي) وإجماعهم على ذلك واضح، في مصنفاتهم وسيرهم، لا يمكن إنكاره ولا دفعه، واحتجوا بأن المعلوم أنه لا بد من طريق إلى انعقادها، والأمة مفترقة في ذلك، فقائل بالدعوة، وقائل بالعقد والإختيار، وقائل: بالنص من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أو من الإمام.
وقائل بالغلبة، فإذا أبطلت الأقوال الثلاثة غير الدعوة، تعين الحق في القول بها وإلا خرج الحق على أيدي الأمة، وأن تكون كلها مخطئة فيما الحق فيه مع واحد وذلك يتضمن إجماعهم على الخطاء، واحتج أيضاً بقوله: -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((من سمع واعيتنا أهل البيت ، فلم يجبها كبه الله على منخريه في النار)). والواعية الدعاء، والمراد به دعاء الإمام.
واحتج أهل العقد والاختيار بالإجماع الواقع من الصحابة يوم السقفية، على الفزع إلى العقد والاختيار والاعتبار له، وحكمهم بصحة الإمامة من وقع في ذلك في حقه دون من لم يقع له، فاقتضى ذلك أن الإمامة لا تنعقد إلا به، واحتج القائلون بالنص من الإمام، بعمل الصحابة رضي الله عنهم.
فإن أبا بكر عهد إلى عمر، فأجمعوا على وجوب العمل بذلك، وسمعوا وأطاعوا، فكان ذلك إجماعاً على أنه طريق تنعقد به الإمامة كالعقد، وزاد من لم يعتبر رضا أهل العقد والحل أن الناس كرهوا عهد أبي بكر إلى عمر حتى قالوا: وليت علينا فظاً غليظاً، ولم تمنع كراهتهم من تمام ذلك، ولا انتقض بها ما أبرم منه، فهذه زبدة ما احتج به أهل المذاهب الثلاثة، وتوصلوا به إلى تصحيح ما ذهبوا إليه، وقد اعترض دليل الأصحاب:(1/26)
أما الأول: فبأن قيل: وأي إجماع من العترة وفيهم إمامية يخالفون في ذلك ثم أن العترة كيف يعلم إجماعهم، مع انتشار أعدادهم في أقطار الأرض، وأي سبيل إلى العلم بهم، فكيف بإجماعهم ذكره ض عبد الله الدواري في تعليقه، ومثل هذا المعنى في إجماع العترة، ذكره السيد محمد بن إبراهيم في كتابه (العواصم)، وبسط القول فيه، وذكر من علماء العترة وأعيانهم خلقاً كثيراً في المغرب، لا يطلع على مذاهبهم ولا أقوالهم.
وأما الثاني: فبأن قيل إنما تثبت بذلك صحة ما يقولونه، لو كانت المذاهب المذكورة حاضرة، لا يمكن القول بغيرها، فحينئذ إذا بطلت إلا واحداً منها تعين الحق فيه، وأما حيث غيرها من الأقوال ممكن ولا حصر فيها، لما يمكن أن يذهب إليه الذاهب فلا، بل يجوز بطلان غير ما ذهبتم إليه، وبطلان مذهبكم وكون الحق في غير ذلك كله.
وأما الاحتجاج بالخبر: فهو أحادي، ولا دلالة فيه على أن الدعوة هي طريق ثبوت الإمامة، إنما يدل على وجوب طاعة الداعي.
وأجيب عما احتج به أهل العقد والإختيار بأن قيل: إن أردتم أنهم أجمعوا على ذلك معتقدين أنه الطريق إلى انعقادها، فدوال على ذلك فلا سبيل لكم إلى تصحيحه.
وإن أردتم أنهم أجمعوا على ذلك، معتقدين بأنه الطريق إلى انعقادها على مجرد فعله، فلا فرع لكم في ذلك،ونحن لا نسلم حسن الإختيار، حينئذٍ ولا عدم التناكر فيه، لأن الإمامة في ذلك الحال ثابتة النص.(1/27)
وأجيب عن حجة القائلين بنص الإمام: بأنه لا دليل على أن الإمام الأول إليه ذلك، فإنه حكم شرعي، لا يثبت إلا بدليل شرعي، و(لا)إجماع المدعي غير صحيح، فإن علياً -عليه السلام- أنكره، ولم يرضه هو وأتباعه، فكيف ينعقد الإجماع من دونهم.
قلت: ولا يخفى على المتأمل أن جميع أدلة أهل المذاهب الثلاثة، المذكورة عن القطع بمراحل، وأنها إذا مُحِّصت وتأملت حق التأمل، لم تنته بنا إلى يقين، ولا أفادت القطع الخالي عن التجويز والتخمين.
وأولى ما يقال: إنه لا بد من الجمع بين الأمرين، العقد والإختيار، والدعاء إلى الله تعالى، والإنتصاب لهذا الأمر، وإشهار النفس له، وأن أحدهما لا يكفي في ثبوت الإمامة على سبيل القطع.
وأما العقد فإذا فرضت حصوله وأن جماعة من أهل الحل والعقد اختاروا واحداً صالحاً للإمامة، فعقدوها له، ونصبوه واختاروه، ثم أغلق باب داره على نفسه، وخمل ولم ينهض، ولا شهر سيفه، ويدع إلى ربه، فليس من الإمامة في شيئ، وأي نفع لذلك في أمر الإمامة، وتكاليفها العامة، وما أحسن ما أثر عن موسى بن جعفر حيث قال: "ليس منا أهل البيت إماماً مفترض الطاعة وهو جالس في بيته، والناس (…….ص9).
وعن الإمام الحسين بن علي الفخي، أنه قال: (من كان منا أهل البيت داعياً إلى كتاب الله تعالى، وإلى جهاد أئمة الجور، فهو من حسنات زيد بن علي، فتح والله لنا زيد بن علي الجنة، وقال: {ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ }[الحجر: 46].
وعن الإمام الجليل زيد بن علي، أنه قال: (أيكون إماماً الجالس في بيته، المسبل عليه ستره).(1/28)
وأما الدعوة فإذ فرضت حصولها، لا عن مواطأة لأحد من أهل الحل والعقد، ولا رضي واحد منهم، فغير بعيد ثبوت الإمامة واستقرارها، ولا تخلو الأمة عن التعلق به، والمشاركة فيه، والإحتجاج إليهم فيه.
فإن أجابوا وبايعوا ورضوا به، استقرت إمامته، وصحت دعوته، ولو لم يقع ذلك منهم فلا صحة لدعوته ولا استقرار لها.
ويؤكد ذلك ما جرت عادة الأمة والأئمة، من التشاور في هذا الأمر، والتواطؤ عليه، وسبق الدعوة بالعقد والاختيار لا نجد إماماً قام غالباً إلا على هذه الكيفية المرضية، ولا يستحسن الإمام أن يبين للأمة أمرهم هذا، ويشتغل بالنظر فيه.
ويجانب ما أمر الله به من المشاورة وندب إليه بها على سبيل العموم، ولا يفعل هذا من له تثبت في الأمور،ومثل هذا التكليف العسير، لا ينبغي أن يتسارع إليه إلا عن مشاورة ومفاوضة لأهل الحل والعقد، ومن له في صلاح الأمة والأمور المهمة جد وجهد. ولا يخلو الأمر عن أحد وجهين:
إما أن يغلب على ظنه رغبتهم في ذلك إليه، وأشد حاجتهم إياه، ففي ذلك تقوية لأمره، وشدّ لأزره.
ومن سوء التدبير أن يحجب ذلك عنهم والحال هذه، فأن غلب على ظنِّه أنَّهم له كارهون وعنه نافرون، وأنهم لذلك لا يُحبون وفيه لا يرغبون، فليس مثله من يقدم على أن يؤم الناس مع كراهتهم له ولا صلاح في ذلك، وإذا كانت إمامة الصلاة تحرم على من عرف كراهة المؤمنين إياه، مع سهولة المؤنة في ذلك، فبالأولى والأحرى أمر الإمامة الكبرى، والله سبحانه أعلم.(1/29)
فائدة: إذا جعل الطريق إلى ثبوت إجابة الإمام العقد والإختيار، فلا إشكال أن ثبوت إمامته يكون عقيب العقد لا قبله ولا بعده، منفصلاً عنه.
وإذا جعل الطريق إلى ذلك الدعوة، قيل (المهدي): فلا يصح، أن يقال: إن ثبوت الإمامة يتأخر عن الدعوة، لأنه يؤدي إلى أن يدعو إلى من لم تثبت وجوب طاعته ولا تتقدم إذا لم يكن قد انعقدت قبل الدعوة، فيجب أن يقارن بها الدعوة لا تتقدم ولا تتأخر.
قُلْتُ: وفي هذا نظر، وكيف يُقَارَن المتطرق إليه والطريق ويوصل إليه في حال سلوكها للتوصل إليه، والصحيح أن دعوته طريق إلى ثبوت الإمامة، وأن ثبوتها عقيب حصول الدعوة، وأن ذلك لا يمنع من تقديم الدعوة، بل يقال: من كملت فيه شروط الإمامة، واستجمع خصالها، فله أن يدعو ويثبت حقه عند إتيانه بها ولا إشكال في ذلك، ويلحق بما ذكر بيان معنى الدعوة وبيان ماهيتها، وبيان صفة العقد والإختيار وكيفيته.
أما الدعوة، فقيل (المهدي): هي أن يظهر الرجل من نفسه الانتصاب لمقاتلة الظالمين، وإقامة الحدود والنظر في المصالح العامة ويدعو إلى ذلك، وقيل: التهيؤ للقيام بأمور الأمة والإمامة، والعزم على تحمل مشاق ذلك، والمباينة للكفرة والفسقة، مع كونه في موضع لا يكون لهم فيه سلطان عليه ولا يد، بحيث يمكن استحضاره إليهم، لا أن المراد أن يكون لا يأمن أن يوجهوا إليه العساكر، ويجوز أن ينالوا منه منالاً مع ذلك، فهذا لا يمنع صحة الدعوة.
قال: ولا يشترط في صحة الدعوة بألفاظ الدعاء، كأن يقول: أدعوكم إلى كذا فأجيبوني، وأطيعوا أمري، بل يكفي أن يظهر أنه قد عزم على القيام بأمر الإمامة.(1/30)