قلنا: هذا مما خيله الشيطان إليه وأدخله من اللبس عليه، والصحيح على أصل معتبر الظن، ما ذكره بعضهم من أنه يعتبر الظن ما لم ينص إلى زيادة على الثلث ثم إن اعتبار الظن عند القائلين به إنما هو بالنظر إلى من لا يعرض له هذا العارض المخالف لمقتضى العقل والنقل، وكيف يعتبر الظن فيمن أمضى به الشك إلى مخالفة يقتضي العلوم الضرورية والطرق اليقينية، ولو خطر ببال إلى طالب حال من هذا حاله لصرح وقطع بأنه متعد، وأنه لا مراعاة لظن مثله، ولا اعتبار به ولا قائل بأن الظن يعتبر فيما يخالف حدود الشرع وينافيها فمن المعلوم قطعاً أن الذي يغسل عضوه عشر غسلات أو عشرين غير واقف على مقتضى الشرع ولا متأس بالشارع -صلى الله عليه وآله وسلم-، وأن ظنه فاسد فإن هذا العارض الذي عرض له من قبيل الوسواس قد صير ظنه غير مورس وقد أخل في حقه بصحيح النظر، ثم إن السيد أبي طالب -عليه السلام- هذا إنما يرد ذكره والتعليل به في إزالة النجاسة في العذر في نحو غسل الوجه مراراً كثيرة واسعة، أوفي مسح الرأس الذي يتعدى فيه الثلاث أو غسل اليدين كذلك ولقد شاهدنا وبلغنا من أولي الشك عجائب وغرائب.(1/291)


فمنهم من يعظم الرزية في غسل الوجه، ومنهم من يتعدى الحدود في مسح الرأس وشاهدنا من تعلق به الشك في مسح الأذنين فيقف على ذلك ساعة طويلة، وهو يكرر المسح ويتردد فيه ويدخل على نفسه اللبس في أمره، فلا ينبغي أن يعتل الشاك في شكه بقول نبي أو قول إمام، وإنما الواجب عليه أن يعتقد إنما إلي من قبيل الشيطان نعوذ بالله منه، فيجتهد في مدافعته، ويحترز عن طاعته، وليرجع إلى مقتضى الشرع الشريف وأسلوب الدين الحنيف، فإنه -صلى الله عليه وآله وسلم- بعث بالحنيفية السمحة وبالتيسير وعدم التعسير، وكان -صلى الله عليه وآله وسلم- ينهى عن التشديد وأسلوبه في التوضؤ عن مثل هذا الأسلوب بعيد، وإذا ألهمه الشيطان أن يقول قصدي في ذلك صالح وما أردت به إلا رضى الله عز وجل ويتفق الإتيان لما شرعه لأنه لم يتحصل لي تيقن إذا ما كلفت به إلا لهذا، ولو أني تركت شيئاً منه لما حصل فيَّ تيقن الإتيان بما كلفته فلم أكن متخلصاً عنه.(1/292)


قلنا: لك ما أحسن النية، فهو لا يفيدك في ارتكاب البدعة، فإن النية الحسنة لا تنفع صاحبها وتفيده إلا إذا تعلقت بالفعل على الوجه الذي شرع ولو كان حسن النية بعيد مع خلاف ذلك للزم أن يحسن بها الفعلالقبيح كمن سرق مال الغير ليسد به فاقة الفقر ويواسي به المحتاجين، ومعلوم أن ذلك لا يفيد، وأما بأنه لم يقع تيقن إذا ما كلف به إلا بذلك، فهذا اعتذار بالجهل وسبيله أن يشتغل بمداواة جهله وأن لا يعتمده في أمر دينه، ويعمل بمقتضاه وتخلصه من هذا الجهل يحصل بأيسر تأمل، وهو أنك تقرأ ما ذكره علماء الشرع وحفظة العلم وتطلع عليه إن لم يكن قد نظرت إليه، وإن كان قد قرأه فبأن تتذكره وتتأمله فإنك تجد الأمر هوناً يسيراً لا معيباً عسيراً، وليس ثم إلا إزالة نجاسة أو يجر غسل عضو شرع غسله.
أما إزالة النجاسة فالأمر فيه قريب وإن كانت نجاسة خفية لا جرم لها كأثر البول، وأكثر ما قيل فيه: أن يغسل مكانها ثلاث مرات، والغسلة تحصل بصب الماء والدلك مرة، وهذا شئ يسير غاية، وأيضاً فلا حاجة إلى ما يعتاده الناس من غسل موضع النجاسة وغيره معه؛ إنما الواجب مكانها فقط كثقب الذكر ونحوه وكما أصابه البول من الفرج، وإن كانت النجاسة ظاهرة لها جرم فالقصد إزالتها حتى تذهب عينها ثم غسلتان يسيرتان بعد ذلك، وهذا كله يتفق بأيسر عمل وقليل من الماء، ولا فائدة ولا ثمرة ولا مثوبة فيما زاد على ذلك، إنما هو علق وتجاوز بحد المشروع وتشاغل بما لا فائدة فيه.(1/293)


وأما غسل أعضاء الوضوء فأكثر ما قيل في الغسل: إنه إمساس العضو الماء حتى يسيل مع الدلك، والقصد أن يسيل الماء من الجزء الذي وقع عليه إلى ما لديه لا يشترط أن ينتهي إلى الأرض ولا أن يصب الماء صباً، وهذا أمر يسير إذا تأمله متأمل وحد الفرض ينقضي بأقل شئ من الماء وأقل عمل باليد فإنما القصد بالدلك إجراء اليد على الجسد مع قليل اعتماد لا مشقة فيه ولا إيلام ولا كثير حركة.
ثم قد ندبت التثنية والتثليث مما قال الزيادة على ذلك، هذا في أمر الوضوء، وكذلك في أمر الغسل القصد إزالة النجاسة على ما ذكر، ثم إجراء الماء على البدن مع ما تيسر من الدلك على وجه يقتضي أن يسيل الماء من جانب إلى جانب، ولوقف أنه لم ينته إلى الأرض منه قطرة فيا عجباً من هذا الابتداع الذي لا غرض فيه ولا وجه يقتضيه، ما الموجب لصب الماء الكثير والدلك المتكرر وإتعاب النفس في ذلك وتضييع الوقت!!، وليتأمل من له أدنى عقل هل يليق به امتحان نفسه وإضاعة وقته وإهماله ما يعود عليه نفعه على هذا الوجه ما هذه إلا بطالة وضلالة، وسلوك في سبيل البلسة، واستعمال لما يستعمله إلا من لا عقل له إذ العاقل لا يحمل المشقة إلا لأحد أمرين أو لكلتيهما إما غرض ديني أو غرض دنيوي وهذا خال عنهما، أما الديني فالغرض يحصل باتساع السنة والإتيان بما كلف به على الوجه المشروع وفي ذلك مخالفة لهذا.
وأما الدنيوي فلا نفع في ذلك ولا دفع ضرر، وإنما هو مشقة تذهب هدراً ويرجع فيه صاحبه إلى الوراء.(1/294)


وهاهنا وجه أخر: ينبغي أن يعالج به الشاك نفسه، وهو أن يبحث عما كان عليه معلم الشرع ومبلغه -صلى الله عليه وآله وسلم- ففرضنا الاقتداء به والجري على ما كان عليه ويتبع كتب الآثار وما نقل عنه العلماء الأخيار، ويسأل عن ذلك إذا كان أمياً، فإن ذكر ما كان عليه -صلى الله عليه وآله وسلم- من تيسير الأمر في ذلك فاغتساله بالصاع وبوضوءه بالمد ونحو ذلك مما يعزب به معاكسة هذه الطريقة المشؤمة، وكذلك فليبحث عن حال الصحابة وأئمة العترة فإنه لا يبلغه عن أحد منهم الاعتداء في الوضوء، ولا المبالغة فيه، حتى قال بعض الأئمة عليهم السلام فيمن زاد على الغسلات الثلاث: أنه قد أساء وتعدى وظلم، وقد ذكر بعض العلماء أنه ينبغي لذي الشك أنه يتجنبه بكل ممكن ويطرحه، ولو خيل إليه أن صلاته باطلة واعتقد ذلك فلا يصرفه هذه الاعتقاد عن تحقيق الوضوء، فإنه بعد كسع النفس ومخالفتها وعدم التعويل على اعتقادها هذا الفاسد تعود إلى صحة الاعتقاد وطريق الرشاد وحصول المراد، والله سبحانه أعلم، وهو تعالى ولي التوفيق، والفاتح بنيل التحقيق والهداية إلى آمن طريق، وهو حسبنا وكفى، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المصطفى، والسلام على عباده الذين اصطفى.(1/295)

59 / 60
ع
En
A+
A-