الأدب السابع
اجتناب التفريط فإنه يشارك الخيانة في وجوب الضمان غالباً وإيجاب مطلق الإثم، وأما المساواة فيه فهي متحققة، والتفريط أنواع منها غفلته وتراخيه في وقت العمل والقبض المعتاد؛ فإن لذلك أوقاتاً إذا أخر عنها وقع التناقض والتفويت، فينبغي منه التوفر وإحضار الذهن وهو إن كان في جهة العمل فذلك منه بمرأى ومسمع، وإن كان نازحاً عنها فلا أقل من أن يبحث ويترقب ولا بأس أن يكون له في الجهة من يشعره بذلك في وقته، وإذا كانت [جهته متسعة] لمارها يأتي شيئاً فشيئاً قدم ما تقدم، وإن كانت تأتي في وقت واحد قدم ما هو مظنه الفوات وإن استوى الحال منها اتخذ أعواناً ممن ينوبه، ونظر في الأمر نظراً مخلصاً عن درك التفريط، وإن عجز عن كل ذلك أذن الإمام به وعرفه أنه لا يتمكن إلا من العمل في بعض تلك الجهات لينظر الإمام فيمن يعينه أو يستقل بجمع البعض عليها.(1/266)


ومنها: أن يتراخى في تبليغ ما جمعه فذلك(لا) شك تفريط، ومن حقه أن يتبادر بتبليغه بنفسه أو بواسطة إلى يد الإمام أو من أهله لالتقائه حسب العادة، وأن لا يغفل عن ذلك ليخلص ذمته عن عهدة الأمانة وليحذر عن الآفات التي يقع بها الفوات من سرقة المتاع أو خيانة الوديع، أو ظن أمر يقتضي نقضه أو ذهابه أو مرض العامل نفسه أو موته أو غير ذلك؛ ثم إن التبليغ فرضه وهو في الحقيقة مستأجر عليه والجمع من دونه لا ثمرة له ولا فائدة؛ فإنه لا انتفاع للإمام بما جمع ولم يبلغ إليه كما لا ينتفع بما لا يجمع، اللهم إلا أن يأمره الإمام ببقائه عنده، أو حيطة في جهة يعينها له فعليه الامتثال ويخرج بذلك عن الإخلال، وحيث أمر بتركه وعدم تبليغه في تلك الحال أو منعه من التبليغ مانع من خوف أو غيره، أو لم يتمكن منه للاشتغال بتبعة العمل فليحذر من التفريط فيما جمعه وصار في يده بوجه من الوجوه لا يأمن منها من يناقصه، فإن كان حيطة له في بيته احترز عليه من أهله وولده ولم يأمنهم عليه فيجعله في منزل لا سبيل لهم إليه ويحجبه عنهم ويكتم ما استطاع الكتم، وإن كان تحت يد وديع لم يرض به إلا مع أو يعينه وظهور أمانته وعدالته فحيث أنه لا يخاف عليه في حياته ولا بعد مماته، وإن كان تاركاً له في منزل لغيره أو في دار سكنها غيره احترز في ذلك بالمغالق الوثيقة والأقفال الحريزة ونحو ذلك، ولا يفتر حيث كانت الغلقة ونحوها متقدمة على تصييره لما في المنزل وبيد أهله من قبل ذلك فإنه لا يأمن أن يكون لها مفتاحان، وإنما اللائق أن يتخذ من ذلك ما يقع به الأمن مما ذكر وإن كان حباً في(1/267)


مدفن لم يرض من المدافن إلا ما يؤمن عليه من السرقة والانتهاب وما يعزب أنه لا يغير ما دفن فيه، ومع ذلك كله فيحترز بالتنزيل القليل والكثير في مسطور يذكره أن يسمي ويعرف به بعد موته على هذا المنوال في أنواع التحرزات فإنما قصد التنبيه والتمثيل لا الحصر.
ومنها: أن لا يكتري للحمل من لا يؤمن فذلك تفريط، وينبغي له التحفظ في هذا المعنى وكثير ما يعرض الخيانة ويقع بسببه الفوات الذي لا يمكن تلافيه، ولا يكري محملة لا ممن يوثق به أو مع مسايرته له، إذا سيرها به فيما نقص وطلب ضمين عليه من نصبه أوجبت بقطع أنه إن خان لم يعنه، وأنه ممن يحكم عليه ويحترز في أن يجعل له مجالاً في الاعتذار إن خان فإذا كان المحمول مكيلاً مثلاً والمكاييل تختلف جعل له مكيالاً إما تحمل مع الحمال أو يكون مساوياً لمكيال المخزان الذي يحمل إليه الحب، وإن كان المحمول مما يوزن حقق وزنه وأخبر الإمام أو من يقع التبليغ إليه بقدره، وشرط على الحامل أن يأتيه بجواب ينطوي على تحقيق بلوغ ما صيره إليه، ونحو هذا من التحرزات والتنقضات التي لا تعزب عن ذي الفهم والألمعية.
ومنها: أن يسلك بما معه طريقاً مخوفاً أو تأمن الحامل فسلوكه أو يأذن له، فإن هذا أمر بضمان التفويت، وينبغي له التحرز والاحتياط منه جداً ولو سلوك طريق متعد أو توقف حتى تسلك القافلة والنظر فيمن سايره ولو بأجرة كاملة، وإن أعوزه ذلك كله لم يقع له ما تضمن به ويأمن به على ما معه راسل الإمام وخبرة بذلك ليمده بالنظر فيه، أو يأذن له فيما خشي منه فيخرج عن الملام والضمان وفي حكم الإمام من أمر بالتبليغ إليه.(1/268)


ومنها: أنه (لا يبيع) بنفسه فإن ذلك من مضان الإضاعة لأنه قل ما يقضي ما كان من هذا القبيل بل يداخل المستدين الطمع ويستعسر القضاء ويستنكر الطلب من العامل ومن الإمام، وقد يكون ذلك سبباً في التنفير والتنكير فينبغي أن يحترز عن ذلك وأن لا يبيع إلا بنقد فإن أضطر إلى أن بيني فبوثيقة ممن لا يخاف تغيره إن ألح عليه، ولا يبالي بالتشديد عليه في الطلب، وهذا ما لم يأمره الإمام أن يبتني فإن أمره بذلك لغرض فيه، أو لتعذر حضور الثمن فعليه الامتثال ولا ضمان عليه فيما تعذر عليه فيه الاستقضاء وفات من ذلك.
ومنها: سلوك سبيل المحاباه فعليه إن لا يحابي أحداً قط فيما يرجع إلى ولايته والمحاباه على وجوه:
أحدها: أن يحابي أرباب الزكوات فيما وقع منهم من الغلول وعدم الموافاة أو الامتناع من توفير الحصة التي أمروا بتوفيرها من الزكاة.(1/269)


وثانيها: أن يحابي من اختطف شيئاً منها لا عن إذن من الإمام ولا برضى، كما عليه كثير من الناس في زماننا هذا أنهم يختطفون ما أمكنهم من الزكوات ولا يبالون بأمر الإمام ولا نهيه عن ذلك ولا بما فيه الخطر، والعوام اتباع كل ناعق واختداعهم من أيسر الأشياء وأسهلها وقد يتفق ذلك لرغبتهم إلى نفع من يصيرون إليه الواجب، ومكانه عندهم وسعة جاهه لديهم وقد يفعلونه لنوع من المخادعة كأن يوهمهم أن الإمام قد أذن له بذلك أو كتب إليه كتاباً ويحسنون الظن فيه، فيقبلون كلامه أو يريهم كتاباً ويقرأه عليهم، وإن كان ليس فيه شيء من ذلك أو يكتبه بخطه يوقفهم عليه، ويستشهد بعض المغفلين الذين يعرفون مجرد الكتابة من غير تيقظ ولا معرفة للخط، أو يذكر لهم أن الإمام مستغن عن هذا أو غير ناظر إليه، وهو لا يبلغ إليه ولا ينتهي إلى يديه أو الإمام إنما ينفقه على الأجناد في علف البهائم والجمال، وعلى سفلة الناس كالمهاتير والغلمان، وغير ذلك من أنواع التغرير والتلبيس والتمحلات لأخذ الزكوات ووضعها في الكيس.
وهذا من أعظم الأسباب المفوتة لبيوت الأموال والزكوات، والمعصية لعدم توفيرها وهي مصيبة قد شاعت في جميع الجهات وجرى عليها كثير من أهل التمييز إلا من عصم الله تعالى من عباده وقليل ما هم.(1/270)

54 / 60
ع
En
A+
A-