زكاة فصرفها وتسليمها إلى من يجزيه التسليم إليه بل يثاب أسنى الثواب عليه أولى له وأخلق به من أن يصرفها على وجه لا يخلصه (فيصير) غير متخلص بها في أخراه، ولا مشفع بها في دنياه، ونحو هذه المعاني المحكمة المباني، وملاك هذا الأدب هو الصبر على معاناتهم وأذاهم وعدم التأنف والمنافرة والمقابلة لما صدر منهم من مساوي الأخلاق بمحاسنها، وأن يدفع بالتي هي أحسن، فإن الخلق الحسن هو مرهم هذه الأمور والمقاصد ونيل المأرب والفوائد والمرقاة إلى درك الأمر العسير والذريعة إلى التوسعة والتيسير، ومع ذلك فهو أمر سهل يسير لا يفتقر إلى تعب ولا يفضي بالمتخلق به إلى نصب، والله تعالى هو الموفق.(1/261)


الأدب السادس
أداء الأمانة واجتناب الخيانة، وهذا الأدب هو واسطة عقد الآداب والخلاصة منها واللباب، ومحك الأديان، وقاعدة الصلاح في هذا الشأن، قل في زماننا هذا المتأدب به والمعتمد عليه، والناظر بعين التوفيق إليه، لأن الزمان المشار إليه بارتفاع الأمانة وكثرة الخيانة، وقد صار الناس على ما قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((إذا فعلت أمتي خمس عشر خصلة فقد حل بها البلاء ، ثم عد منها أن يكون المغنم دولاً والأمة مغنماً والزكاة مغرماً)) ولزوم ويحميها وارتفاعها في الخصال الشريفة وتقدمها وفضاعة شأن الخيانة وما فيها من الخساسة والوضاعة مما لا يخفى على الخواص ولا العوام ولا يحمله أحد من أولي الأحلام والأفهام، ولا يفتقر إلى الإيضاح بعد الإبهام، فطابق في ذلك العقل والنقل، وصرح به في غير موضع كتاب الله عز وجل وهو القول الفصل، قال الله تعالى: { فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ }[البقرة: 283] {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا }[النساء: 58] {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ}[الأحزاب: 72] الآية، {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً }[النساء: 107] {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ }[الأنفال: 58].(1/262)


وأما ما ورد في السنة والأخبار المروية فمما لا يحصره حساب ولا يشتمل عليه كتاب، قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: (فيما) نحن بصدده من أنواع الأمانة ما لفظه: ((إن الخازن المسلم الأمين الذي يفعل ما أمر به فيقطعه كاملاً موفراً طيبة به نفسه فيدفعه إلى الذي أمر به أحد المتصدقين)) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من طريق أبي موسى، وقد سبق من الأحاديث في ترغيب العامل بالحق وعلى التقوى في الأدب الثاني ما هو من شواهد هذا المعنى فإن المراد به العامل الأمين، وسبق فيه أيضاً من الترهيب للعمال ما يعرف به عظيم موقع الخيانة والمغلول من الذنوب الموبقة، والجرائر المهلكة، فنعوذ بالله من ذلك ونسأله السلامة من المهالك، فليحتزر العاقل غاية الاحتراز عن أن يأخذ شيئاً غير ما فرض له ولو مثقال ذرة، فإن الله تعالى يحاسب به فإن الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((من استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً فما أخذ بعد ذلك فهو غلول)) رواه عبد الله بن بريدة، وعن عبادة بن الصامت، أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بعثه على الصدقة، فقال: ((يا أبا…. اتق الله لا تأتي يوم القيمة ببعير تحمله له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة لها ثغاء، قال: يا رسول الله إن ذلك لكذلك. قال: أي، والذي نفسي بيده))، قال: والذي بعثك بالحق لا أعمل لك على شيء أبداً.(1/263)


وعن عدي وغيره قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: ((من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخطياً فما فوقه كان غلولاً يأتي به يوم القيامة))، وفي أخر هذا الحديث أنه -صلى الله عليه وآله وسلم- قال لمن استعظم، فقال: سمعتك تقول: كذا وكذا، قال: ((وأنا أقوله: إن من استعملناه منكم على عمل فليجئ بقليله وكثيره فما أولى منه أخذه وما نهي عنه انتهى)).
وروى أبو رافع، عنه -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه مر بالبقيع فقال: ((أفا لك ، فكبر ذلك في ذرعي، فاستأخرت وظننت أنه يريدني، فقال: (مالك أمس) فقلت: أحدثت حدثاً قال: (لا، ومالك) فقلت: أففت لي، قال: ((لا، ولكن هذا فلان بعثته ساعياً على شيء فلان فغل غيره فدرع عليه مثلها من النار)).
وعن عبد الله بن عمر، أنه كان على ثقل رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- رجل يقال: له كركرة فمات، فقال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((هو في النار )) فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها وعن زيد بن خالد أن رجلاً من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- توفي يوم حنين، فذكروا لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: ((صلوا على صاحبكم ، فتغيرت وجوه الناس لذلك، فقال: إن صاحبكم غل في سبيل الله)) ففتشنا متاعه فوجدنا حرزاً من حرز يهود لا يساوي درهمين))، فانظر إلى ما شملته هذه الأحاديث من الوعيد الشديد والزجر والتهديد وغيرها مما تركنا رقمه إيجازاً واختصاراً وفيما ذكرناه كفاية وزيادة.(1/264)


تنبيه: ينبغي لمن اطلع على خيانة العامل أن لا يكتم ذلك عليه، ولا يستره فإن ذلك نوع من الإدهان ومناف لما أوجب الله سبحانه وتعالى من نصيحة أولي الأمر ويعني ذلك أن لا يتحرج صدر العامل أو لئلا يكون نميمة أو لاعتقاد بوجه الستر عليه، أو لغير ذلك من الحوامل فهو مغرور ممن قال الله فيه: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاُ }[الكهف: 104]، فإنه بذلك شاركه في الخيانة وتصور بصورة الراضي بها، وخالف ما أوجب الله تعالى من النصيحة التي جعلها النبي –صلى الله عليه وآله وسلم- من الدين، ولا شك أن الخيانة منكر، وأن تاركها والتعريف بها يؤدي إلى إزالتها، إما بأن يصلح العامل ما فسد أو بأن يرفع يده عن العمل ويبعد، وبالكتم يسبب المعصية واستمرارها والبقاء عليها فالكاتم كتارك إنكار المنكر، وهو تفريط في جنب الله عز وجل.
وعن سمرة بن جندب، أنه قال: أما بعد فكان رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: ((من يكتم غالاً فهو مثله )).(1/265)

53 / 60
ع
En
A+
A-