وأما حيث كان يعلم من نفسه كونه قوياً أميناً، ولا يتوه في ذلك، والقدوة ما صدر عن يوسف الصديق -عليه السلام- من التعرض للولاية والإدلاء لذلك وهو دليل واضح، ثم إن تولي العمل لأئمة الهدى خصلة شريفة ووظيفة رفيعة وأي وظيفة وأخذ بنصيب من الجهاد، وإعانة الإمام في تكاليفه الشداد، ويوصل إلى كسب المعاش من وجه مستطاب لا تعاب وتسبب إلى السلامة من شوائب الاكتساب، واستغنى عن المسألة المحرمة والحرف المذممة، وقد ورد من الأخبار والترغيب في العمل على الصدقة بالتقوى كافية كفاية، كقوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((العامل على الصدقة بالحق لوجه الله عز وجل كالغازي في سبيل الله حتى يرجع إلى أهله)) رواه رافع بن خديج، وورد من طريق عبد الرحمن بن عوف ولفظه: ((العامل إذا استعمل فأخذ الحق وأعطى الحق لم يزل كالمجاهد في سبيل الله حتى يرجع إلى بيته)).
وعن أبي هريرة، عنه -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((خير الكسب كسب العامل إذا نصح )).(1/256)
الأدب الثالث
ينبغي له إذا رجح في حقه الإجابة إليها والعمل عليها أن يجيب بسهولة وانطلاق وبشر ولا يتلكى ويتعنت، ويظهر شدة الامتناع ويرغب في تكرر المراجعة فإن ذلك ما يشوب نفعه ويكدره، وقد يكون سبباً في انتقاض أجره وعدم توفر صنيعه ومخالفة بشبهة، وما أمر به من المسارعة إلى طاعة الله وأولى الأمر، واللائق بمن شأنه الإسعاد ومآله إليه أن يبدأ به ويجيب إجابة الكرام بانطلاق واهتمام، وكل صنيعة يبديها صاحبها بعد تنكد ومماطلة وتعبيس فهي غير هنيئة، وما أحسن ما قيل فيما يناسب هذا أو يشابهه:
وخير العطا ما وافق الضر نفعه .... ولم يقفه ابن ولا أمة مطل
وما كان صبراً واحتساباً ولم يكن .... رجاء لما بعد جزاء لما قبل(1/257)
الأدب الرابع
ينبغي له عند النبأ على الإسعاد والإجابة والانقياد أن يستحضر النية الحسنة والقصد الصالح، ويصفي القلب عن خواطر السوء والمقاصد الدنيوية؛ فإن الأعمال بالنيات حتى (أن) النية الحسنة قد تُصير المباح من جنس القرب المقربة إلى الله تعالى الموجبة للثواب، و(تغير) صورة الواجب إلى المحظور الذي يستدعي العقاب كمن قصد بالسجود لغير الملك المعبود، وقصد بصلاته أن يقال: صلاة هذا حسنة، أو أن ينال بها إرباً من مأرب الدنيا فيستحضر في قلبه أنه أجاب تقرباً إلى الله تعالى وسبباً إلى الثواب بنفع الإمام وإعانته ومظاهرته وأخذ نصيب من الجهاد معه ونفع المسلمين الذين يصير إليهم ما جمعه وقبضه والمشاركة في تحصيل ما صرف منه، من المصالح الدينية ونفع أرباب الزكاة بتخليص ذممهم وتسهيل التخلص عنها عليهم، وإذا عرض له قصد الانتفاع لعماله وما يصير إليه من حصته نوى أن ذلك ليستعين به على طاعة الله عز وجل ويستغني به عن ما حرمه الله تعالى، وينفع عائلته ومن يلزمه نفعه، ويؤدي ما أوجبه الله من حقهم ونحو ذلك، وليحذر أشد الحذر أن يجعل قصده عرض الدنيا وما يعود إليها فيحرم نفسه الخير مع تمكنه منه، ويسهل له ووضوح طريقه:
فلم أرَ في عيوب الناس شيئاً .... كنقص القادرين على التمام
واعلم أن النية هي كقطب الرحى للعمل، فعليها من الأعمال مدار الأعمال الأخروية ولا قول ولا عمل إلا بنية، وهي بالقلب لا باللسان.(1/258)
وقد ورد في هذا المعنى من السنة والقرآن ما يستغني عن الفعل والبيان كقوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى)) وهو من الأحاديث المشهورة المباركة المبرورة، حتى قال بعض العلماء هذا الحديث يبنى عليه ربع الإيمان، وهو مما رواه عمر بن الخطاب وادعى بعض علماء الحديث فيه التواتر.
وعنه -صلى الله عليه وآله وسلم: ((الناس على نياتهم )) رواه أبو هريرة.(1/259)
الأدب الخامس
حسن المعاملة لمن ولي عليه، وأن يجد في الرفق وحسن الاستدعاء لهم إلى الطاعة والتسليم والانقياد، ولا يدلهم في أول الأمر أن يعرض لهم وحشة عنه ويتوه وإزورار لا سيما حيث لم يكن قد سبقت بينهم وبينه معرفة واختلاط، وحيث كان عليهم قبله متول غيره فليلطف ويتدخل إلى ما يريده منهم، ويحسن المراجعة لهم كل ما يليق به، ويصبر على ما قوبل، من أذى أو نفرة أو وقع فيه من مشقة أو عسرة؛ ثم ليبسط لهم عذره في التولي عليهم ويعرفهم بأن هذا أمر قد وجب عليه إما بإلزام الإمام أو لأنه أمر ديني، ونفع الإمام واجب على من يحسنه ويمكنه ثم ليعرفهم (بحق) الإمام ووجوب طاعته، وما في ذلك من الخير وما في خلافه من الشر والضير، ولا ييأس لما يراه من جماحهم وإياهم، ولا يعتقد استمرآهم على ذلك فهم عما قليل راجعون وإذا اشتد جماحهم وتعليهم فليجتهد في إصلاح واحد منهم، واستدخاله في الطاعة فما أسرع تلاحقهم، وللرعية الذين تنفذ عليهم الأوامر مزاج وعلاج، وكذلك لم يقاربهم في الرهبة والخوف من عواقب المعصية، وللأخيار وأهل العزة علاج آخر على الجملة، ولكل مقام مقال، وقد كان لبعض أعوان الأئمة فيما مضى بشر عظيم في هذا المعنى للصبر الذي كان عليه مع حسن القصد ولطف المعاملة والإحكام فيها، والله مع الصابرين، ومما ينبغي أن يعرفهم به ما في التسليم إلى الإمام من الفضل وعظيم الأجر ومشاركته فيما هو فيه، وكون ذلك حضهم من الجهاد معه، فإنه لا ينبغي ممن قعد عن الجهاد بنفسه أن لا يحترم الإعانة بحق الله الذي لا نقص عليه في تسليمه ولا خلل، وأنه إذا كان لا بد أن يخرج(1/260)