وأما ثانياً: فلعدم دلالته على المقصود، لأن البدعة: هو كل ما دل القرآن بمحكمه والعقل برؤيته على أنه ضلالة، وعند المفسق أنه إنما فسق لبرهان فليس ببدعة عنده. وإن كان الحق عندي خلافه، وهو عدم الحكم بالفسق، والتوقف في ذلك، عملاً بقوله -صلى الله عليه وآله وسلم: ((المؤمن وقاف عند الشبهات )) قوله: مثل المؤيد بالله -عليه السلام- يستشهد بأقواله، ويستظهر بأحواله.
قلنا: نعم، مثله -عليه السلام- من يقتدى به في الأقوال والأفعال؛ لأنه –عليه السلام- من جملة الأئمة، وكبار الأمة، لكن في المسائل الاجتهادية لا القطعية؛ لأن الحق فيها مع واحد، فلا ينبغي أن يرجع فيها إلى فعل فلان وفلان، وإن كان من عيوب أهل الزمان. قوله: لتوقف كل من لحوق التهمة وامتناع الصلاة على صاحبه.
قلنا: لسنا نجعل لحوق التهمة ما ذكرته، بل سببها ما ذكرناه من كون الغالب من أحوال المختلفين في مسألة الإمامة هو المجانبة والمباينة، قوله: المجانبة لا تقتضي اعتزال الصلاة مع اعتقاد صحتها.
قلنا: إن المقتضي للاعتزال إنما هو لحوق التهمة، وسبب لحوق التهمة هو غلبه المجانبة، ومع لحوق التهمة يزول اعتقاد الصحة؛ لأنه حينئذ قد أطاع بنفس ما به عصى. قوله: ولا بعد ذلك، وهو جعل صلاته تابعه لهواه، معتبراً فيها غير مطابقة رضاء الإله، إلا من هو عن الخير بمعزل إلى أخره.(1/246)


قلنا: نعم، لا يفعل أحد صلاته لذلك الغرض إلا من هو عن الخير بمعزل لكن هذا بمعزل عما قلناه، ومجانب لما ذكرناه؛ لأنا لم نسوغ تركها لهذا الغرض، بل لما يلحقه من التهمة المنهي عنها، بقوله –صلى الله عليه وآله وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فلا يقفن مواقف التهم )) وتفرغ التهمة على المباينة التي ليست بحسنة لا تدفع حسن ترك الصلاة لأجل تلك التهمة، كما لا يخفى لكن مولانا –أبقاه الله تعالى- عول هاهنا على التشنيع الذي لا يجدي صاحبه، ولا يقل راكبه.
وأما ما حكاه عن المؤيد بالله -قدس الله تعالى- سره، فلعل التهمة في ذلك مرتفعة والله أعلم.
قوله: لأنه قد وضح وتقرر كون اختلاف العقيدة في الإمام لا يختل به شرط عند الرافضين للصلاة.
قلنا: لا نسلم لا ما قد بينا أن مع التهمة يصير مطيعاً بنفس ما به عصى. قوله: ولكنه يدل بمفهومه دلالة بينة على أن نافي إمامة الإمام متثبتاً في أمر دينه لا يمنع الصلاة خلفه لعدم جرأته.
قلنا: ما ذكرنا من التهمة يدفع دلالة هذا المفهوم إن سلمناه. قوله: في هذا نظر!! لأن الإمام يحيى -عليه السلام- ذكر ذلك على أصل أهل المذهب في تكفيرهم.
قلنا: جوابنا متوجه على ما يقتضيه ظاهر العبارة في الرسالة، فلا موقع للتنظير [إذاً] قوله: وأما على أصله فهو مستغن عنه.(1/247)


قلنا: لا نسلم استغناءه عنه على أصله؛ لأنه –عليه السلام- يقطع بخطاب أهل الجبر في العقيدة فربما يتوهم أنه مع عدم الحكم بفسقهم فجعلهم كالفساق في عدم صحة الصلاة خلفهم، لشناعة عقيدتهم، كما في من كشف عورته بين الناس ونحوه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وصلى الله على سيدنا محمد الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
نعم، وأما التقسيمات التي أوردها مولانا أيده الله تعالى:
فلعمري إنها لأبحاث شريفة،ونكت لطيفة،لم يسبق إليها أحد من حذاق العلماء، ولا تنبه لها أحد من عيون الفضلاء، بل جرى مولانا أيده الله تعالى في ذلك السبيل بغير دليل، وأبدع فيما أفاده من التقسيم الجليل، فالله المسؤول أن يؤيد ببقاء مولانا الملة، ويبرز بعنايته ما استتر من صحيحات الأدلة، فلن ينسج على منواله، ولا تسمح بصيرة بمثاله، واعلم أرشدنا الله وإياك إلى الصواب، وجعلنا ممن رجع إليه وأناب، أنه لا نزاع في القسم الثالث:
وهو إصابة أحد الفريقين وخطأ الأخر، وكذلك لا نزاع في القسم الثاني. وهو أن يكونا مخطئين معاً، وإنما النزاع كل النزاع في القسم الأول وهو أن يكونا مصيبين معاً، ويكفينا في دفع ما أورده فيه وجهان.
أحدهما: معارضة.
والثاني: تحقيق.(1/248)


أما المعارضة فيمن خرج على إمام الحق منتصباً سيفه، شارعاً رمحه، محاولاً لانتزاع روحه، واستئصال شأفته، لأنه ينافي فيه مثل ما ذكر مولانا فيمن صدر منه مجرد النفي فيلزم حمله على السلامة، والحكم بعدم خطأه في خروجه واعتقاده، وقبح مقاتلته مع الإمام، وبيان ذلك أن يقال: لا يمتنع أن يكون الخارج على الإمام قد أمعن النظر في طريقته، وينظر أحوال سيرته، فظهر له من الأمور المبطلة لدعواه، المجانبة لرضى مولاه، المبيحة لسفك دمه، وهتق حرمه، ما خفي على المثبت لإمامته، المعتقد لصحة ولايته، فليس للمثبت إذاً أن يحكم بخطأ ذلك الباغي في بغيه، بل يحمله على السلامة وهذا ظاهر الفساد؛ لأن فيه تصويب القاتلين لأئمة الهدى، ومصابيح الدجى، -سلام الله عليهم-.
وأما التحقيق: فهو أن يقال: إنه ليس لكل من المثبت والنافي، أن يخطئ الأخر حتى يظهر له حقيقة حاله، أو يطالبه بوجه اعتقاده، فلا يبرزه فيكون حينئذ قد أحل نفسه محل التهمة، والمخطؤن محمولون على أنهم إنما حكموا على مخالفهم بالضلال، بعد أن ظهرت لهم حقيقة الحال، وتيقنوا أنه راكب لمعين العناد، متبع لهواه في ذلك الاعتقاد اللهم، إلا أن يظهر لنا خلاف ذلك، عملنا بمقتضى ما ظهر.(1/249)


وأما قول مولانا -أيده الله تعالى- في أخر كلامه: وعلى هذا يتنزل ما كان من معاملة بعض السلف بعضاً، مع اختلافهم في أئمة زمانهم، من عدم تعاديهم ونساخهم مع اعتقادهم أن المسألة قطعية، فليس بواضح لجواز أنهم كانوا يصرمون بالخطأ في ذلك الاختلال، لكنهم كانوا لا يحكمون ببلوغه درجة الفسق، فلهذا حسنت معاملتهم فيما بينهم، والله سبحانه وتعالى أعلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم.
وكان تمام ذلك، والرقم لما هنالك، بعد الظهر بقليل، يوم الثلوث تاسع عشر شهر صفر المظفر، الذي هو من شهور سنة تسعة وثمانين وألف 1089هـ، بخط أفقر عباد الله، المحتاج إلى عفو الله، السائل لربه العظيم، ومولاه الكريم، الرضى عنه، وحسن التوفيق، والهداية إلى أوضح سبيل وطريق، صلاح بن أحمد بن صالح بن دغيش الحيمي اليوسفي، لطف الله به وبوالديه، وبقرائبه، وجميع المسلمين، وذلك مما رقم لسيدي الولد القاضي العلامة عز الإسلام، وسليل آبائه الكرام، محمد بن الحسن بن أحمد بن صالح بن دغيش –حفظه الله تعالى-.(1/250)

50 / 60
ع
En
A+
A-