وغير بعيد أن يستهجن كثير ممن يقف على كلامنا هذا، جعلنا هذه الوجوه طريقاً إلى عظم شأن هذه المسألة ومخرطة لها عن حيز المسائل القليلة الخطر، ومنهجاً إلى إلحاقها بالمسائل الجليلة القدر، العظيمة الشأن، التي يصير بها من لم يصب جادة الصواب فيها ويسلكها من الآثمين بل من الظالمين وسبب الاستهجان كون هذه المشاق مما لم يسبق إليه.
ولا يطرق الأسماع وكأنه قريب الميلاد، والنفوس تنفر عما لا تألفه وتعتاده، وإلا فمن أنصف وجانب التكبر بما تعجرف، وتأمل ما هداه الدليل إليه من سواء السبيل وتعرف.
وجده كلاماً حسن المعاني، قوي المباني، وهذا شيء دعانا إليه ما تيقناه من عظم أمر الإمامة وحالها ومحلها، وارتفاع منزلتها ودرجتها، مع كون أدلتها ليست بذلك.
فقد ورد عليها أسئلة مشكلة من أراد الإطلاع على تحقيقها، والوقوف على غاية ما قيل فيها، فليطالع المراسلة الدائرة فيها، بننا وبين حي الفقيه الأفضل جمال الدين علي بن محمد البكري رحمه الله تعالى، فإنا وإياه أشبعنا فيها الفصل، وأتينا بما له على ما ذكره غيرنا في ذلك فضل.
وكذلك شرح مقدمة الكلام من كتاب (البحر) لمصنفه قدس الله تعالى وجهه وروحه، فإنه بسط في ذلك ووسع المسالك، فجزاه الله تعالى خيرا.(1/21)


تنبيه: تعرف مما ذكرناه ونشرناه أن الإمام من مصالح الدين العظيمة، وخيراته العميمة، وهو أمر لا ينبغي أن يعدل عنه ولا أن يستراب فيه، وعليه نص الشيخ أبو علي، وقاضي القضاة، وعزا إلى الشيخ أبي هاشمالقول: بأنه من مصالح الدنيا، والأمور المتعلقة به كلها دنيوية فحكمه في ذلك كحكمها، وكان مثل هذا الشيخ جدير بأن لا يصدر عنه مثل هذا القول ولا يحوم حوله، والله سبحانه أعلم.(1/22)


القول في طريق ثبوت الإمام وما تنعقد به إمامته
قيل ي(الإمام يحيى بن حمزة): والإجماع منعقد على أن الرجل لا يكون إماماً بمجرد صلاحيته للإمامة، وإنما يكون إماماً بأمر آخر غير ذلك.
وقيل (الإمام المهدي): حكى الحاكم عن بعض الزيدية أنه بإجتماع الخصال يصير إماماً، قال: الصحيح من مذهبهم أنه لا يصير إماماً إلا بإنضمام أمر زائد. انتهى.
قال المهدي: ولا أحفظ هذا المذهب لأحد من الزيدية، وإن صح فهو ظاهر السقوط لخرقه الإجماع السابق.
وقد اختلف في ذلك الأمر، فمذهب الجمهور من الزيدية إلى أن الإمامة تنعقد في غير من وقع النص عليه بالدعوة، وذهبت المعتزلة والأشعرية، والخوارج، والمرجية، وأصحاب الحديث، والأكثر من أهل القبلة، والصالحية من الزيدية، إلى أنها تنعقد بالعقد والاختيار.
قال الإمام المهدي -عليه السلام- وبه قال بعض الزيدية، كالمؤيد بالله، ومن تابعه.
وقال الإمام يحيى -عليه السلام-: حكى عن الإمام المؤيد بالله -عليه السلام- أنه قال: لا يمتنع أن يكون عقد الخمسة لمن اجتمعت فيه الخصال طريقاً إلى ثبوت الإمامة.
روى كثير من المتأخرين أن القول بثبوت الإمامة بالعقد لم يقل به م بالله -عليه السلام- وإن قال به في غيرها منهم القاضي عبد الله الدواري في تعاليقه. قال: وإنما لم يجز أن يكون العقد والاختيار طريقاً إلى إمامة علي، والحسنين عليهما السلام، لأن إمامة هؤلاء ثبتت بالنص.
قال: ويبعد أن يكون أحد من أصحابنا قام بالإمامة، ولم يعقد له.(1/23)


قال الإمام يحيى بن حمزة: وظاهر كلامه هذا فيه دلالة على أنه يذهب إلى أن العقد طريق إلى ثبوت الإمامة، لمن عقد له، خلا أنه يمكن تصوير الخلاف بيننا، وبين من خالف، بأن يقال: فلو قام من هو صالح للإمامة، ودعى ولم تعقد له فهل تصح إمامته، أو لا؟ فعلى قولنا تصح، وعلى قولهم لا تصح.
قال: وما قاله أصحابنا من اعتبار الدعوة في طريق الإمامة قوي من جهة الشرع لإجماع العترة عليه وضعف دعوى الإجماع على كون الاختيار طريقاً للإمامة، وما ذكره م بالله -عليه السلام- قوي من جهة النظر فإن عليه عمل الصحابة فيما فعله عمر ورضوه وسكتوا عليه، قال: ولا يقال: إن المؤيد بالله مخالف للإجماع بمخالفة القولين المتقدمين فقائل يعتبر بانعقاد الإمامة الدعوة لا غير، وقائل يعتبر في انعقادها العقد والإختيار من غير زيادة.
فإذا قال المؤيد: لا يمتنع فيمن عقد له الخمسة، وكان جامعاً للخصال المعتبرة في الإمامة، أن يكون العقد طريقاً إلى إقامته، كان هذا القول قولاً ثالثاً مخالفاً الإجماع، لأنا نقول: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلان إحداث القول الثالث لا يكون خرقاً للإجماع، كما قررنا في الكتب الأصولية.
وأما ثانياً: فلأن جمعه بين العقد والاختيار والدعوة، يكون قوة لا محالة، وزيادة وثاقه، في طريق الإمامة، فما كان هذا حاله، لا يمنع منه، فلا وجه للتشنيع على المؤيد بالله -عليه السلام- فيما ذهب إليه.(1/24)


قلت: ويؤخذ من مفهوم كلام الإمام يحيى -عليه السلام-، في حكاية مذهب المؤيد بالله -عليه السلام-، أنه يعتبر العقد والدعوة معاً، وإن لم يلخص عبارته، ويلوح من عبارته وكلامه هذا إن ذلك رأيه -عليه السلام-، والله أعلم.
قيل ض(القاضي عبد الله الدواري): وروي عن زيد بن علي، والناصر، والمؤيد الله، كقول المعتزلة، قال: ولم تصح لنا عنهم هذه الرواية في الإمامة، إلا أن للمؤيد بالله في (الزيادات) كلاماً يحتمل ذلك في الإمامة، وهو متأول، فأما الولايات غير الإمامة، فهو مصرَّح فيها بمثل قول المعتزلة.
واعلم: أن المذاهب في طريق انعقاد الإمامة كثيرة متفاوتة، ولكن هذين المذهبين هما المعول عليه، والمرجوع للمحققين إليه، وقد ذهب أكثر المعتزلة، منهم: الشيخ أبو هاشم، أن من طرقها عهد الإمام الأول على من يقوم بها بعده، إذا قَبِلَ ذلك المعهود إليه.
قيل (المهدي): وهو قول أكثر الأمة، وخالفهم أبو علي في ذلك. وحكى عنه المهدي -عليه السلام- أن الإمامة تنعقد بذلك مع رضا أهل الحل والعقد، وقال سليمان بن جرير: إذا أراد الإمام أن ينص على غيره فله ذلك، لا على جهة الإلزام، بل من قبيل المشورة عليهم، والتعريف لهم بصلاحيته، بأن يختاروه إن شاءوا.
وفي المسألة مذاهب أخر، كقول من قال: تنعقد بالغلبة، وقول من قال: بالإرث، وقول من قال بالنصر، هذه المذاهب جديرة بترك ذكرها، وعدم سطرها.(1/25)

5 / 60
ع
En
A+
A-