قال: إن [الله]قد بعث طالوت ملكاً، واختاره من غير بيت الملك، وكان ديناً عالماً، علم الله تعالى من حاله من البسالة في القتال، وسعة العلم بالأحكام، التي تتعلق بالجهاد، ومن ثم لما استنكروا إقامته عليهم، وليس من بيت مملكتهم بين الله تعالى على لسان نبيه العلة التي لأجلها اختاره عليهم. فقال: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}[البقرة: 247] وبين سبحانه وتعالى أن من حق الملك الذي به قوام الجهاد على قانونه المرضي عنده؛ أن يجمع ثلاث خصال، وهي الدين الوازع، والعلم الواسع، والإقدام الرائع، فبين اشتراط الخصلة الأولى بقوله: {اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ}، وهو سبحانه لا يصطفي إلا من رضى دينه وتقواه، لقوله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ }[الحجرات: 13] وبين اشتراط الخصلة الثالثة بقوله (والجسم) إذ لا فائدة في الجسم إلا ليكون إقدامه الذي في قلبه نافعاً في نكاية عدوه، ولو أقدم وهو ضعيف الجسم، لم يحصل الغرض المقصود بإقدامه، وهذه في جل شروط الإمامة وما عداها فهو مضاف إليها، وهي أصل لما عداها من الشروط.(1/241)


فلما قرر نبيهم ما اعتقدوه من أن الجهاد لا يستقيم إلا بملك ينظم أمره، بأن أجابهم إلى ما التمسوه من بعث الملك علمنا بذلك صحة ما اعتقدوه من أن الجهاد لا يستقيم إلا بملك ينظمه فثبت كونه شرطاً في القيام بالجهاد، وهو المطا، لا يقال: إن شرع من قبلنا لا يلزمنا إلا بدليل من شريعتنا يقوم على لزومه لنا؛ لأنا نقول: بل يلزمنا حيث حكاه في كتابنا، ولم تقم دلالة على أنه قد نسخ، واعلم أن هذا الدليل السمعي ظاهره القوة لكن المعتمد هو الدليل العقلي فاعرف ذلك.
وأما ما ذكره مولانا -أيده الله تعالى- من الإجماع على عدم اشتراط الإمام في المدافعة، ومن قول كثير من العلماء بعدم اشتراطه في الغزو أيضاً، فهو لا ينقض ما ذكرناه؛ لأنا لا نمنع من إمكان حصول نكاية العدو مع رئيس غير جامع لشرائط الإمام، لكنها لا تحصل معه على الحد الذي يحصل مع من اجتمعت فيه الشرائط المعتبرة، كما قلناه أولاً، ولا شك أنه يجب تقوية شوكة الإسلام، وشد عضده على أبلغ ما يمكن ويكون، والله تعالى أعلم بالصواب.
قوله: ليست الدعاوي في إثبات المقاصد كافية، ولا للسؤالات القادحة (الفادحة) نافية. قلنا: الأمر كما ذكره مولانا أيده الله تعالى، لكن الواجب أن يعرض كل من الكلامين على معيار النظر والاعتبار، وميزان التأمل والافتكار، لكي يتضح الخطأ من الصواب، ويتميز الشراب من لامع السراب.
قوله: وإنما تلك ظواهر وأخبار أحادية، ودعاوي مجردة عن إيراد البينة القوية، كدعوى الإجماع على وجوب معرفة شرائط الإمام.(1/242)


قلنا: إنه يجب اعتقاد ظاهر العموم إذا علم عدم ما يخصصه، والأخبار وإن كانت أحادية، فهي متواترة المعنى، ودعوى الإجماع لا يفتقر إلى بينة، بل يتوقف العلم به على قوة البحث، فلعل من علمه أكثر بحثاً ممن لم يعلمه، فلا وجه لتعجب مولانا أيده الله تعالى، من ادعاء السيد مانكديم -رحمه الله- للإجماع في ذلك على أنا إنما أوردنا ذلك رداً لما ادَّعاه مولانا -أبقاه الله تعالى- من تركهم إيراد أدلة على سائر أطراف مسائل الإمامة، فأريناه أن ذلك غير متروك، ولا مغفول عنه، وأنهم قد أوردوه في مواضع كثيرة، كما لا يخفى على من طالعها.
قوله: ونحن نعلم ضرورة من حال الإمام عدم معرفة ماهية الإمامة ومعناها، فضلاً عن أحكامها وتحقيقها.
قلنا: الكلام في الإمامة كالكلام في النبوة؛ حذ النعل بالنعل فما قيل في إحداهما قيل مثله في الأخرى من غير فصل، ومن حصل له العلم بحال العوام في ذلك، كما حصل لمولانا –أيده الله تعالى- فالواجب عليه أن يعمل بحسب علمه من الزجر والإنكار، وعدم التقرير على ما هم عليه من الخطأ، وقد تكرر من مولانا –أبقاه الله تعالى- ادعاء العلم بحال العوام في مواضع متعددة ولا ينبغي منا متابعته في التكرير، لكنا نأتي بأمر كلي.(1/243)


فنقول: يجب على كل من علم ذلك في بعض العوام أن ينكر عليه وينهاه، ويعمل بحسب علمه في ذلك، ويحمل من لم يعلم منه ذلك على السلامة، وما أورده مولانا -أيده الله- من حكاية بعض الثقات لا يفرع عليه؛ لأنه قد يصدر من المغفلين في حق الصانع سبحانه وتعالى، ورسله من الأمور الشنيعة ما لا ينبغي رقمه في الأوراق فضلاً عن الأئمة، والواجب الإنكار على من هذا حاله في الموضعين.
قوله: وإن كان المراد على غير ما ينبغي منه حملهم عليه، قلنا: نعم هذا هو المراد، وما ذكره من حصول اليقين قد مر الكلام عليه، قول الأئمة عليهم السلام أهل التنوير.
قلنا: نعم، هم كذلك، لكن لا يشترط فيهم عندنا أن يكونوا ممن يعلم الغيوب، وينكشف لهم السر المحجوب، بل هم كغيرهم من الآحاد في ذلك على أن الأنبياء -عليهم السلام- أعلى حالاً منهم، وقد حسن منهم أمر العوام باعتقاد النبوة، وتسليم الحقوق إليهم، من غير أن يأمروهم بتقديم النظر في نبؤتهم، حملاً لهم على السلامة، ولم يظهر لهم من حالهم شيئ، فما ظنك بالأئمة الذين هم دونهم في التنوير؟! وهذا واضح لا لبس فيه فالأولى لمولانا –أيده الله- سلوك طريقة الإنصاف، والعدول عن طريق الاعتساف، كما هو عادته المألوفة، وطريقته المعروفة. قوله: كيف يحسن منه أمر غيره بالإقدام على ما لا يأمن كونه خطأ.
قلنا: بل الخطأ في ذلك مأمون ؛لأنه إذا أمره باعتقاد الإمامة فالمراد العلم بها، واعتقاد العلم مأمون الخطأ فيه عند الآمر والمأمور.(1/244)


أما الآمر فظاهر؛ وأما المأمور فلأنه لا يوقعه إلا بدليله، ويصير الحال في ذلك كالحال فيمن أمر غيره بأن يعتقد وجود الصانع سبحانه وتعالى، أو شيئاً من صفاته سوى سوى.قوله: ومثل ذلك لم يسمع عن أحد من الملقنين.
قلنا: ليس عدم سماع ذلك يقتضي نفيه. قوله: ، ولا أظنه خطر لهم ببال. قلنا: إن بعض الظن إثم.
قوله: ولِمَ لا يكون ذلك بعد النظر في أدلة المفسق التي أوردها، وأسند اعتقاده إليها.
قلنا: أما بعد النظر فيما ذكر فله ذلك ولم يمنع منه. قوله: بل لمن نظر وأمعن الفكرة في أنواع الأدلة وأقسامها، وما يمكن الاستدلال به دلالة قاطعة منها فلم يجد دليلاً أن يقطع بعدم حصول القاطع.
قلنا: ذلك متعذر أو متعسر على القوة البشرية؛ فإن الإحاطة بطرق البحث كلها على وجه يعلم معه أنه لا شيء غيرها مما يتعذر أو يتعسر، لا سيما في حق أهل زماننا هذا، على أنا إذا فرضنا وقوع ذلك وجب العمل بمقتضى العلم، ونحن إنما منعنا حيث لم يظهر له شيء من ذلك.
قوله: أردنا بذلك الاستظهار بأحوال السلف، وردع المفسقين المستندين في تفسيقهم إلى فتوى من ليس كمثلهم في الرتبة.
قلنا: هذا مبني على ما اعتقده مولانا في حق المفسقين من الخطأ، وقد مر الكلام عليه، وأما البيت الذي أنشده فليس بشاهد مرضي.
أما أولاً: فليس بحجة.(1/245)

49 / 60
ع
En
A+
A-