وكان الواجب عليهم تحري الأفضل وإعطاء كل ذي حق حقه، لكنهم أخلوا بالنظر الواجب عليهم، وبادروا إلى العقد لأبي بكر خوفاً من الشقاق العصي ويفرق الجماعة، لو انتظروا علياً -عليه السلام- حتى يفرغ من دفن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
وأما توقف الأحكام الواجبة على الإمام كالجهاد ونحوه، فهو إنما يقتضي وجوب نصب الإمام عند الإمكان، وقبل البحث عن الصالح للأمة لا يمكن النصب.
وصار الحال في ذلك، كالحال في وجوب نصب القاضي على الإمام حيث لا يتسع هو للحكم بين الناس، وعرف من نفسه ذلك، فإنه يجب عليه نصب الحاكم وجوباً موسعاً غير مضيق، وإن كان ثم خصومات يجب فصلها وتعذر عليه ألا يساغ لها لأمور أهم، فكما أن نصب القاضي وإن وجب، ومست الحاجة إليه، فإنه لا يتضيق على الإمام، بل له مهلة البحث عن الصالح للقضاء والدرية، ولو في مدة لها امتداد كذلك الحال في وجوب نصب الإمام على الأمة لا يتضيق عليهم بل يكون موسعاً القدر الذي حققناه، وهذا أوضح كما ترى. قوله: ومثل هذا بعد مصادرة على المطا.
قلنا: ليس ما ذكرناه من المصادرة في شئ لأن المصادرة أن تكون المطا وبعض مقدمات الدليل شيئا واحداً، وليس مطلوبنا من هذا الجواب بيان وجوب نصب الإمام على الأمة؛ لأنا قد قررناه بدلائل أخر بل المطا إبطال السؤال الوارد على القول بوجوب النصب على شيء من أركان تلك الدلائل الدالة على وجوب النصب.(1/236)


وهذا واضح لا التباس فيه، فجعل ذلك من المصادرة من باب وضع الاسم على غير مسماه فافهم. قوله: يقال: مع إيضاح عدم قطعيته، وإتيانه على ما هو ظني محض، وسنبينه فظهر ظنية ما عداه.
قلنا: إذا أمكنك بيانه استقام لك هذا الإيراد، لكن دون بيانه حوط الفناد. قوله: على أنه سيتضح لك ما قدمناه من كون الدليل الأول أشف الأدلة وأقواها، بما تحققه من كون هذا الدليل أضعفها وأوهاها.
قلنا: وسيتضح الأمر على خلاف ما تضمنته هذه الدعوى، وأن هذا الدليل قد بلغ في القوة الغاية القصوى. قوله: في القدح على الدليل الثالث إن أردت أن الشارع جعله شرطاً ففي ذلك اعتراف بعدم وجوب نصبه؛ لأن تحصيل شرط الواجب ليجب لا يجب وإن إردت أن الأمر ورد مطلقاً.
وإما يقطع بتوقفه على نصب الإمام فدعوى القطع في هذا الأصل غير مسلمة. قلنا: هذا القسم الثاني هو الذي أردناه دون القسم الأول، ولا يضرنا عدم تسليمه لذلك لأن صحة الدعاوي لا تقف على تسليم الخصوم. قوله: فأي الأدلة الشرعية القطعية دل على أن الإمام شرط في غزو الكفار والبغاة أو مدافعتهم؟.
قلنا: ظاهر كلامه أنه لا يصح لنا أن نستدل بالعقل على ذلك، وليس الأمر كذلك، بل كما يدل السمع على ذلك يدل عليه العقل أيضاً، ولنا عليه دليلان: عقلي وسمعي:(1/237)


أما الدليل العقلي: فهو ما ذكرناه في الجواب من أنا نعلم ضرورة من جهة العادة إلى آخره، وما أورده مولانا عليه من أن ذلك لا يدل على وجوب نصب إمام جامع للشروط غير وارد، لأن الرئيس الذي يرجع إليه في جهاد الكفار والفساق، الجهاد الموافق للشرع الشريف ويقوم به، لا بد من أن يكون عارفاً حتى يتمكن من الإقدام والإحجام في الجهاد ومدافعة الأعداء على الوجه الشرعي، وأن يكون ذا رأي ومتانة حتى يدير الحرب والسلم، ويشتد في مواضع الشدة، ويلين في مواضع اللين، وأن يكون شجاعاً مجتمع القلب فلا يضعف عن لقاء العدو، ولا يجبن عن القيام بالحرب، وأن يكون سليم الحواس والأطراف؛ لأن عدم التمكن من الجهاد مع فقد السلامة ظاهر، وأن يكون في الظاهر لأن الفاسق ربما أوقع جهاده للأعداء على غير الوجه المطابق للشرع، وربما أخذ الفيء كله لنفسه، أو وضعه في غير مستحقه، ويندرج في ذلك كونه مسلما بطريق الأولى.
فإن قلت: إنه لا يعتبر أن في أمير الجيش أن يكون عدلاً، ولا عارفاًِ أيضاً، ألا ترى إلى إمارة خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، عهده رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-على الجيوش، قلت: هما كانا من تحت أمر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
ونحن إنما اشترطنا ما ذكرناه في من ليس تحت أمر إمام كامل الشرائط؛ وأما من هو تحت أمره فلا يعتبر ذلك فيه لأنه كالآلة للإمام، ولا بد أيضاً من كونه حراً بالغاً عاقلاً ذكراً.(1/238)


أما العقل فلأن الصفات التي قدمنا ذكرها لا تحصل إلا معه؛ وأما الذكورة فلأن الغالب من حال النساء أن لا تحصل لهن الصفات التي ذكرناها ولأنه لا يحصل لهن من الهيبة ما يحصل للرجال، وإن حصلت لهن هيبة فإنما هو لهيبة السادات، وهكذا القول في البلوغ.
وأما الحرية فلاستحقار الناس بالعبيد، ولأن أزمنتهم مشغولة بخدمة السادات، ولا بد أيضاً أن يكون سخياً، ومن منصب مخصوص؛ لأن الناس لمن هو كذلك أطوع، وإليه أميل، فيحصل المقصود من نكاية العدو، وتوهين جانب الكفر، والمعاصي على أتم الوجوه وأكملها، كما هو الواجب على كل مسلم، وهذه في صفات الإمام المعتبرة فصح أنه لا يتم تأدية المجاهدة الشرعية لأعداء الدين، وتوهين أمر الفسقة والملحدين على أتم الوجوه، إلا برئيس جامع لشرائط الإمامة، وهو المطلوب.
وظهر لك ظهوراً بيناً أن ما ذكرناه هو الحق الواضح، والصواب اللايح، وأنه ليس من قبيل مجرد الصناعة في الكلام، وإبرازه في قالب الانتظام، كما ادعاه مولانا -أيده الله تعالى-، فنسأل الله أن يزيدنا هداية إلى الصواب، وأن يصلح لنا أمر العاقبة والمآب، بمحمد الأمين، وآله الأكرمين، فهذا هو الدليل العقلي على أن الإمام شرط في القيام بالجهاد الشرعي، وحصول الفرض به وهو العمدة.(1/239)


وأما الدليل السمعي: فهو ما حكاه الله تعالى في محكم كتابه عن بني إسرائيل حين قهرهم عدوهم وأزعجهم من ديارهم، فطلبوا القيام بمجاهدته، فإنهم أول ما طلبوا مالا يستقيم إلا به، فقالوا: لنبيهم أشمويل -عليه السلام-{ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }[البقرة: 246]، ولم يقولوا: إئذن لنا نقاتل عدونا، ما ذاك إلا لما علموا أن القتال من دون ملك ينظمه، ويدبر أمره لا يستقيم، فطلبوا ما يحصل به قوامه، وهو بعث الملك لهم فقرر الله تعالى ورسوله نظرهم في ذلك، ولم ينكر نبيهم -عليه السلام- ما اعتقدوه من كون القتال لا يستقيم إلا بملك، وإلا لم يحصل الغرض المقصود به، فأجاب سؤالهم بأن أخذ عليهم العهد بأنهم يقاتلون متى أمرهم الملك الذي التمسوا إقامته، وأنهم لا يتركون القتال معه حيث قال: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا}[البقرة: 246] فقرروا على أنفسهم الوفاء بما عهد به إليهم، بأن قالوا: {وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[البقرة: 246] الآية فلما أنس منهم الوفاء، وعلم أن الجهاد لا قوام له إلا بملك ينظم أمره ويعلم أحكامه.(1/240)

48 / 60
ع
En
A+
A-