قلنا: ليست بقرينة بل برهان قطعي، وتقريره أن كل عاقل يعلم ضرورة أن نصب الإمام بعد موت الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم-يرفع شأن الإسلام، ويعلي منارة، والإخلال به يقتضي هدمه وزوال قراره، والمعلوم الذي لا يلتبس من حال الصحابة، أن كل ما كان كذلك فإنهم يهتمون بشأنه ويفعلونه لأجل أنه كذلك، إذ هم أشد الناس عناية بأمر الإسلام وتقوية أركانه، وهاتان المقدمتان ينتجان أن الصحابة نصبوا الإمام لأجل أنه يرفع أمر الإسلام، ويعلي مناره، وأن الإخلال به يقتضي عكس ذلك.
ثم نركِّب قياساً أخر، فنقول: قد ثبت أن الصحابة نصبوا الإمام لأجل أنه يرفع أمر الإسلام ويعلي مناره، وأن الإخلال به على العكس من ذلك، وكل ما فعل لتلك الصفة فقد فعل لأجل الوجوب، ينتج أن الصحابة نصبوا الإمام لأجل الوجوب وهو المطلوب.
أما المقدمة الأولى فظاهرة مما تقدم، لأنها نتيجة القياس الأول.
أما الثانية: فإن الوجوب لازم لتلك الصفة. فإن قلت: غاية ما يقتضي هذا الاستدلال وجوب نصب الإمام على الصحابة فقط بعد موت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-لوجود العلة التي ذكرتم في ذلك الزمان، لقرب عهدٍ بالكفر، فمن أين أنه يجب نصبه بعد ذلك الزمان، وهو وقت استقرار الإسلام وانتشاره في الأقطار؟.(1/231)


قلت: هذا سؤال حسن ويمكن الجواب عنه، بأن يقال: لا شك أن بقاء الأمة فوضى لا أمير لهم ينظم أمرهم، ويجمع كلمتهم، ويتفرغ لسد الثغور، وإصلاح ما أفسده الجهال، وارتكبه أهل الضلال، يقتضي الوهن في الإسلام في أي وقت كان، وإن كان في صدر الإسلام أظهر. قوله: ومثل هذه القرينة لا بد منها في كل إجماع فعلي إلى آخره.
قلنا: لا نسلم ذلك، فليس كل حكم واجب أجمعت الأمة على فعله يقتضي الإخلال به حفظ منار الإسلام، كما قلنا في نصب الإمام.
قوله: ولا يلتفت إلى ما ذكره مولانا المهدي -قدس الله روحه- من تضعيف الاعتراض إلى أخره. قلنا: بل يتوجه الالتفات إليه انقياداً لما قام به البرهان، واتباعاً لما أوضحه -عليه السلام- من التبيان. قوله: فإن السؤلات القادحة لا يكفي في دفعها تضعيفها وانتقاض موردها.
قلنا: لم يعتمد -عليه السلام- على ذلك بل اعتمد في ذلك على ما حكيناه عنه، وقررناه بما لا مزيد عليه. قوله: بل الدعوى المجردة مما أشار إليه الفقيه أيده الله تعالى من حصول العلم الضروري بأن كل واحد من الصحابة يقول بوجوب الإمامة، ونصب الإمام، وأنه لا فرق بين هذا أو بين غيره من المتواترات، كالعلم بأن في الدنيا مكة كما يقضي به مفهوم كلامه حاطه الله تعالى وإن لم يصرح بجميعه.
قلنا: أما العلم الضروري بأن كل واحد من الصحابة يقول بوجوب الإمامة فقد صرحنا به وادعيناه وقررناه بالتصحيح، وأوضحنا أنه الحق الصريح، فلا يصح القول بأن ذلك منا دعوى مجردة، كما قاله مولانا لكنه حاطه الله تعالى قابلنا بمثل قولنا وكال لنا بمثل كيلنا.(1/232)


وأما أنه لا فرق بين هذا وبين غيره من المتواترات، فإن أراد أنا قلنا: بعدم التفرقة بينهما في مجرد حصول العلم فصحيح، فما يمنع منه؟. وإن أراد أنَّا سوينا بينهما في الجلي والظهور، فحاشا!! وكلا!! وليس في كلامنا ما يشعر به قط، بل عندنا أن العلوم التواترية تتفاوت فبعضها أجلى من بعض، بحسب قوة طرقها وضعفها، قوله والمعلوم أنك لو سألت مدعي ذلك عن العلماء عن أعيان الصحابة المدعي معرفة حالهم في ذلك وأعدادهم، لما وجدتهم على تحقيق في ذلك.
قلنا: ما هو جواب عن هذا مفصلاً. قوله: التواتر المفيد للعلم الضروري، لا بد أن يستند إلى إدراك إلى أخره.
قلنا: شرط التواتر وإن تعددت فإن حصول العلم بمخبر الخبر غير واقف على العلم بتكاملها، بل حصول العلم عند الخبر يكشف عن تكاملها، إنما يلزم ذلك عند الشيخ أبي الحسين، ومن تابعه لقولهم: إن العلم التواتري كسبي لا ضروري؛ لأن الكسبي لا يحصل إلا بعد تيقن مقدماته. قوله: ما الذي نقل عن جميع الصحابة جملة لما هو مدرك ليتعقل حصول العلم. قلنا: نقل عنهم أقوال وأفعال شاهدة بأنهم يعتقدون وجوب النصب. قوله: أو غير ذلك فما هو؟.
قلنا: أقوال شاهدة باعتقادهم لوجوب الفزع، وإنكارهم لصلاحية المفزوع إليه. قوله: فإن أصحابنا لم يستدلوا بغيرها مما أوردته معتمدين عليه. قلنا: بل اعتمدوا على ذلك في أكثر مورادهم ومصادرهم، وإسناده إلى الغزالي لا يقتضي استبداده به، وعدم اعتمادهم عليه أيضاً. قوله: لأني لم أقدح في صحة الإجماع، وإنما قدحت في قطعية دليل من أدلته.(1/233)


قلنا: سياق كلامك يقضي بما ذكرناه فإذا أنكرته، واعترفت بصحة الإجماع، فرحباً بالوفاق. قوله: لاحتمال كوني عددته منها على قاعدة أكثر العلماء.
قلنا: القدح بالسؤلات إنما يتوجه على ظاهر العبارات، والتفوض لا يندفع بالاحتمالات. قوله: والقول بأن ذلك من الواجبات الموسعة لم يوجب المصير إليه، والتعويل عليه إلا ضيق الخناق وعظم موقع السؤال الوارد ووضوح قدحه.
قلنا: لا ريب في أن ذلك السؤال وارد على المذهب، وهو القول بوجوب نصب الإمام، لا على شيء من أركان الأدلة الدالة على وجوب النصب، وقد أجمع المحققون على أن ما هنا حاله من الأسئلة، فإنه غير قادح ولا يلزم الجواب عنه أصلاً، لا سيما إذا يرد على جهة المعارضة للدليل، فكيف يصح الحكم عليه بعظم الموقع ووضوح القدح؟ وكيف يقتضي وروده ضيق الخناق؟، والحال ما ذكرناه، لكن مولانا -أيده الله تعالى- عول في بعض كلامه على تهويل العبارات، وتفخيم المقالات، ونحن ممن لا يقعقع خلقه بالشنان، ولا يفزعه التهويل باللسان، وهذا كله مع فرض عدم التمكن من الجواب عن السؤال.
وأما مع التمكن كما سنوضحه فالحال في ضعف السؤال، وعدم وروده أظهر. قوله: ففيه تصريح بوجوب الإحاطة بفضلاء جميع الأقطار، ومعرفة الأفضل منهم.
قلت: هذا الاستدلال الذي ذكره الإمام المهدي عليه مبتني على أنه يجب في الإمام أن يكون أفضل الأمة، أو مساوياً لأفضلها إلا لعذر.(1/234)


وهذا مروي عن جل المعتزلة والأشعرية، وأكثر الزيدية، ولعلهم لا يعتبرون، ولا يوجبون البحث في جميع الأقطار، بل يقولون: يجب أن يكون أفضل أهل زمانه، إما في علمنا أو في ظننا، بحسب الإمكان، كما يقوله بعض المعتزلة، فلا يرد ما ذكره مولانا من أن ذلك يقرب من تكليف المحال.
قوله: ولو كان ذلك شرطاً لبطلت إمامة أكثر الأئمة. قلنا: لعلهم لا يوجبون البحث في جميع الأقطار لتعسره، أو تعذره عندهم بل إنما يوجبون البحث في بعض الأقطار، وقد فعلوه، أو لعلهم يقتفون في الإمام أن يكون من جملة فضلاء زمانه، كما نفهم من كلام بعض الزيدية. قالوا: لأن معرفة الأفضل متعذرة بعد وقت الصحابة لكثرة الناس، وخفى كثير من أهل الفضل.
قوله: على أن أدلة وجوب نصب الإمام من فزع الصحابة عقيب موت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وقبل مواراته، وما يتوقف من الأحكام الواجبة على الإمام كاشتراطه في الجهاد يقضي بالتضيق، فيدل عليه كما يدل على أصل الوجوب، وعلى عدم التوسيع مدة مديدة، قدر مائة وخمسين سنة يتعطل فيها الجهاد، وتنتكس فيها أعلام الرشاد، ويشتد عضد الكفر والعناد.
قلنا: أما مع فزع الصحابة ومسارعتهم إليه قبل مواراة رسول الله
-صلى الله عليه وآله وسلم-، فلا ينبغي الاحتجاج به على عدم التوسيع؛ لأن المسارعة إلى الوجوب في أول وقته، لا يدل على تضيقه بل الأفضل في الوجوب الموسع أن يفعل في أول وقته.(1/235)

47 / 60
ع
En
A+
A-