ولعمري أن كلامه ليشفي السقيم، وأن الزمان بمثله لعقيم، خلا أنه -أيده الله تعالى- سلك في تلك التشكيكات المسلك الذي عزا إلينا انتهاجه، وجرى في ذلك المجرى مع ظهور إعوجاجه، وهأنذا كاشف عن وجه ما ذكرته القناع، معترفاً بأني في ذلك قصير الباع، مستمداً من الله سبحانه وتعالى التوفيق والهداية إلى أوضح طريق بمنه ورحمته، فأقول متتبعاً لما أورده أيده الله تعالى.
قوله: إعلم أن خلاف الأصم، ومن معه إن صحت الرواية عنهم، لا يعتد به ولا يلتفت إليه لندرتهم وانقطاع خلافهم، قلنا: لا وجه للتقييد بقوله إن صحت الرواية لأنها ظاهرة الشهرة عنهم.
وقد رواها الإمام المهدي -عليه السلام-، في (غايات الأفكار) والفخر الرازي في (نهاية العقول)، والفقيه قاسم في (الغرر والحجول)، والفقيه يوسف في (الزهور)، ورواها غير هؤلاء أيضاً، وليست في الشهرة بأضعف من كثير من الروايات التي لا ينبغي إهمالها.
وكذلك ما ذكره من ندرتهم غير مسلم، فإن المخالف في ذلك أبو بكر الأصم من المعتزلة، وهشام الفوطي، وبعض الحشوية، والنجدات من الخوارج، وبعض المرجية، ولا شك في عدم ندور مثل هؤلاء.
وأما انقطاع خلافهم فهو رجم بالغيب لعدم الطريق إلى ذلك، إذ يجوز وجود متابع لهم في بعض النواحي ولم يطلع عليه. قوله: والخلاف واقع بين الأمة وإن خرج عنه بعضهم، قلنا: نعم؛ ولكن عبارته مشعرة بعدم الخروج. قوله: ثم أنه لا وجه لقصر الخلاف في كون الإمامة قطعية أو اجتهادية، على القائلين بوجوبها شرعاً؛ فإن القائل بعدم وجوبها أو وجوبها عقلاً، لا بد له من الحكم عليها بكونها قطعية أو ظنية.(1/226)


قلنا: أما من قال بوجوبها عقلاً فنعم، لا بد له من أخذ الأمرين، وقصر الخلاف في ذلك على القائلين بوجوب الإمامة شرعاً صحيح لا خلل فيه ولا مجاز.
وإنما قصرنا الخلاف عليهم بتمام المقصود الذي سيق له الكلام بذلك؛ وأما من لم يقل بوجوبها رأساً فلا يسلم أنه يقول بأحد الأمرين؛ لأنه يتفرع على القول بالوجوب. قوله: لأنه لا كلام في أن الظاهر عنهم ما رويناه عنهم، فلا حاجة إلى تأويل قولنا: المعتزلة بأكثرهم.
قلنا: لا نسلم ظهور ذلك عن جميعهم، فإن الإمام المهدي -عليه السلام- وغيره حكوا خلافه عن بعض المعتزلة، وذلك يدفع ظهوره عن جميعهم. قوله: على أنا لو أضفنا القول هذا إليهم على حجة الظهور، بل بأن نقول: قالت المعتزلة أو نحوه لكان له مساغ.
قلنا: نعم، له مساغ على جهة المجاز، ولم يمنع من ذلك فإن دأب العلماء والمصنفين وعادتهم في عباراتهم، بل إنما منعنا أن يراد به ظاهره، وحملنا مولانا في الجواب على أنه أراد به المعنى الصحيح، فما وجه هذا الكلام؟.
قوله: ولما طالعت الأم، إلى قوله: فذلك مما سارع إليه القلم لا عن تأمل. قلنا: ما وقع في الأم هو اللائق بفطنة مولانا وذكائه، وكثيراً ما تسارع أقلام العلماء الراسخين إلى غير المراد، وتبادر إلى غير المقصد والسداد، ولعمري أن المبالغة في المناقشة عن أمثال هذا ليست من آداب المخلصين لكن تعرض له مولانا –أيده الله- فتبعناه. قوله: أما مسألة الشفاعة فلها تعلق ظاهر بباب الوعيد.(1/227)


قلنا: إذا حسن ذكر الشفاعة في فن الكلام لذلك التعلق مع كون الطريق إلى ثبوتها شرعية، فلا بأس بذكر مسألة الإمامة، ومسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه أيضاً آخر وهو أنهما مما يجب العلم بهما على المكلفين، وإن تفاوت التعلقات. قوله: ليس عدم علمنا بذلك يدل على انتفائه.
قلنا: بل يدل إذا كان المعلوم من الأمور التي لو وقعت لنقلت لتوفر الدواعي إلى نقلها، ومسألتنا من هذا القبيل على أنا لم نكتف في بيان انتفاء ذلك بمجرد انتفاء العلم به، بل ضممنا إليه قولنا: بل أجمعوا على مثل ما ذكر أبو بكر أنه لا بد من قائم تلجأ الأمة إليه إلى آخره، ومما اشتهر في صفة ذلك ما روي أنه لما توفي -صلى الله عليه وآله وسلم-كان أول من خطب أبو بكر -رضي الله عنه- فقال: "أيها الناس، من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد إله محمد فإنه حي لا يموت، لا بد لهذا الأمر ممن يقوم به، فانظروا أو هاتوا آرائكم رحمكم الله تعالى" فتبادروا من كل جانب: صدقت، ولكنا ننظر في هذا الأمر ولم يقل أحدُ منهم: إنه لا حاجة إلى الإمامة ثم أبكروا إلى سقيفة بني ساعدة وتركوا أهم الأشياء، وهو دفن رسول الله-صلى الله عليه وآله وسلم-، ورأوا نصب الإمام أهم من ذلك. نعم، ولهذا يدفع قوله: فأكثر ما فيه أن يكون إجماعاً سكوتياً. قوله: على أنا إذا رجعنا إلى أنفسنا وجدنا هذا الدليل لم يكسبها يقيناً، ولم يفدها سكوتاً.(1/228)


قلنا: لعل المانع من إفادة هذا الدليل اليقين لتلك إلا نفس هو ما سبق إليها من اعتقاد خلاف مقتضاه. قوله: يعلم ذلك من حالهم ضرورة من لا يعرفهم، ولا يعلم أعدادهم، ولا أسمائهم، ولا أعيانهم.
قلنا: أما العلم بأعدادهم وأسمائهم، فلا شك أنه غير معتبر في العلم بأحوالهم مطلقاً، وأما العلم بأعيانهم فإنما يعتبر في حق الناقلين عنهم، المشاهدين لهم فقط، فإذا علموا أعيانهم، وسمعوا أقوالهم، وشاهدوا القرائن الظاهرة المحتفة بها وكان فيهم كثرة ثم نقلوا ذلك إلى غيرهم، بأن قالوا للذين بعدهم مثلاً: إنا سمعنا كل واحد من الصحابة يقول كذا، وشاهدناه حينئذ من القرائن كيت وكيت، فإنه حينئذ يحصل العلم الضروري للمنقول إليهم بأحوال المنقول عنهم بلا ريب.
وإن لم يعلموا ما ذكره مولانا -أيده الله تعالى- على تعارض مولانا حفظه الله تعالى. فنقول: ألسنا نعلم ضرورة من حال الصحابة القول بأنه لا إله إلا الله، واعتقاد ذلك، فلا بد من بلى فيقال: كيف يعلم ذلك من حالهم ضرورة من لا يعرفهم، ولا يعرف أعدادهم، ولا أسمائهم، ولا أعيانهم؟ وجوابه: جوابنا، والله أعلم.
قوله: وكيف يفيد قرائن الأحوال العلم بالعقائد إلى آخره. قلنا: وأي مانع من ذلك، فإنه معلوم الصحة من غير تردد، ألا ترى إن أحدنا إذا جادل على تصحيح أمر، وعلمنا من شاهد حاله أنه غير موري في ذلك فأنا نعلم أنه معتقد لذلك الأمر بلا شك.(1/229)


وأما الفرق بين المرادات والعقائد في ذلك فهو غير واضح، ولا وجه له. قوله: لأن قوة الدليل بحسب إفادته للعلم وإيصاله إلى مدلوله، فإذا كان موصلاً إلى العلم فلا معنى لكون غيره أقوى منه. قلنا: بل له معنى وهو سرعة إيصال الأقوى إلى العلم، لقرب مقدماته، وسلامته من التشغيب، وبذلك تظهر المزية لأحد الدليلين على الأخر، وإن اشتركا في كونهما موصلين إلى العلم، وقد جرت بمثل ما ذكرناه عادة العلماء والمصنفين في كتبهم، فلا وجه لإنكاره. قوله: على أنه سيتضح كون هذا الدليل أقوى أدلة هذه المسألة، وأن المدعي كونه أقوى منه أضعف منه.
قلنا: وسيتضح أن الأمر كما ادعينا وأن الحق ما قلنا.
قوله: نكتة: الأقرب عندي، أن الإجماعات المروية المدعى فيها كونها يقينية قطعية على وجوه إلى أخره. قلنا: هذا التفصيل مبني على استبعاد وقوع الإجماع وعلى منعه، كما ذكره الإمام أحمد بن حنبل -رضي الله عنه.
ونحن وإن سلمنا بعده فإنما يكون في غير إجماع الصحابة بعد انتشار أمة الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم-، والمدعي في مسألتنا إنما إجماع الصحابة -رضي الله عنهم- فلا يقدح ذلك الاستبعاد فيما قلنا. ولا يمنعنا مما رمناه، وما ذكره مولانا أيده الله تعالى من عدم انحصار الصحابة -رضي الله عنهم- أيضاً غير مسلم. قوله: وأكثر ما فيه أن هذه قرينة تقيد كون ظن فعلهم لأجل الوجوب.(1/230)

46 / 60
ع
En
A+
A-