قوله: وأما الأصل الثالث: وهو أن الإمام شرط في القيام بالجهاد، يقال: إن أردت أن الشارع جعله شرطاً ففي ذلك اعتراف بعد وجوب نصبه لأن تحصيل شرط الواجب ليجب لا يجب إن أردت أن الأمر ورد مطلقاً، وأنا نقطع بتوقفه على نصب الإمام فدعوى القطع في هذا الأصل غير مسلم؛ فإن وجوب الجهاد الذي أوجبت نصب الإمام لأجله من الواجبات الشرعية التي لا مجال للعقل فيها، بل ربما أن العقل كان يقضي بفتحه لو لم يرد الشرع به فأي الأدلة الشرعية القطعية من كتاب صريح، أو سنة، أو إجماع متواترين، أو قياس قطعي، يعلم حكم أصله ووجود العلة فيه وعلتها ووجودها، في الفرع علماً دالاً ذلك؟ ومن أي هذه الأنواع دلتك؟ هذا الذي أورده على أن الإمام شرط في غزو الكفار والبغاة ومدافعتهم، مع أن هذه مسألة ظنية، اختلفت فيها أنظار الأئمة والفقهاء، وإنما اختلفت المقالات لاختلاف الأمارات.
أما المدافعة فلا أعلم قائلاً باشتراط الإمام فيها، وأما اشتراطه في الغزو، فأكثر الأمة وبعض العترة على عدم اشتراطه، ونسب عدم اشتراطه في (البحر) إلى المؤيد بالله، والإمام يحيى والفريقين، وقواه واحتج عليه، بما لا مدفع له، وصرح بجواز الغزو مع الظلمة، وكذلك حكى ذلك غيره، قال في (شرح الإبانة): لا خلاف في جواز ذلك إلا عن الهادي -عليه السلام-، وإنما الخلاف في الوجوب، فظهر لك من هذا أن من جعل الإمام شرطاً، إنما اشترطه في أصل الوجوب لا في تأدية أمر قد وجب وتحصيل شرط الوجوب لا يجب.(1/216)


فأما قوله: الذي يدل على ذلك أنا نعلم ضرورة من جهة العادة إلى آخره. فهو لا يدل على وجوب نصب إمام جامع للشرائط، وعدم دلالته على ذلك ظاهر وإنما هو من قبيل الصناعة في الكلام، وإبرازه في قالب الانتظام، حتى يخيل إلى سامعه أنه في قوة المعنى متناهي، وهو في الحقيقة ضعيف واهي. قوله: وقد أوردنا في دفعها ما يشفي ويكفي.
يقال: ليست الدعاوي في إثبات المقاصد كافية، ولا للسؤالات القادحة نافية. قوله: فهو غير مسلم إذ لم يهملوا ذلك. يقال: بل إهمالهم أو أكثرهم له، وعدم اهتمامهم به ظاهر، ومن أورده منهم وتعرض له فيما لا يشفي على سبيل العروض لا القصد هذا فيما اطلعنا عليه من الكتب المعتمدة والأسفار المتداولة، وأهلها هم الذين أردنا نسبة الإهمال لا غيرهم، ممن لم نطلع على مصنفاته، ولا وقفنا على حججه.
وأما رأيه وما لم يعلمه ويطلع عليه أكثر مما علمناه وطالعناه والعلم علم الله جل جلاله. قوله: بل أوردوا من الأدلة على ذلك ما لا يخفى يقال: هذا الذي نقله الأخ -أيده الله تعالى- من استدلالهم على هذه الفروع. إلى أن قال: فلا حاجة إلى تطويل الكلام ببيانه مما لا يخفى على من له أدنى ذوق، أنه من الأمارات الظنية، لا الدلائل اليقينية، وإنما تلك ظواهر وأخبار أحادية، ودعاوي مجردة عن إيراد البينة القوية، كدعوى الإجماع على وجوب معرفة شرائط الإمام، سبحان الله تعالى ما أسهل الاستدلال بالإجماعات إذا كان الأمر هكذا. قوله:(1/217)


ثم حكمتم بعد الاتباع والتسليم، على أن ذلك إنما كان عن دليل. يقال: الحمل على ذلك إنما يكون مع الاحتمال، وعدم الجزم بأحد الطرفين، فأما مع القطع الذي لا شك فيه فلا ونحن نعلم ضرورة من حال العوام عدم معرفة ماهية الإمامة ومعناها، فضلاً عن أحكامها وتحقيقها، وفهم دقائق مسائلها، بل قد علمنا من حال كثير من المميزين الحذاق المهرة في بعض العلوم عدم معرفة ذلك، والإحاطة بشيئ منه، فكيف بالعوام أشباه الأنعام، الذين لا يميزون بين الخاص والعام، ولا يعرفون الفرق بين المأموم والإمام!؟.
لقد حكى لي ثقة: إن بعض ولاة بعض الدعاة في زماننا كثر ترداده إلى بعض الجهات لقبض الواجبات، وهو كثير الدعاء إلى إمامه، والحث على محبته، واعتقاد إمامته وفضله، وتزكيته وتسليم الحقوق إليه، وكثير الترغيب في ذلك حثاً أنه بذلك يشوق إلى نصر إمامه، والتماس البركة منه، فما شعر أهل تلك الجهة حتى وصلهم ذلك الوالي، ومعه عبد من الحاكة، عليه ثوب شديد البياض، فظن من ظن من أهل تلك الجهة أن العبد المذكور هو الإمام، الذي يذكره ويدعوا إليه، ولو احتجت إلى شرح ما يصدر عن العامة في هذا الشأن وغيره مما يعلم به بلههم وحمقهم، ومما يلتحق بحكانا المغفلين لطال الكلام، والأمر في ذلك واضح غني عن الاستشهاد، فكيف يمكن حمل من هذه صفته على ما ذكره الأخ –أيده الله تعالى-. قوله: فذلك حمل منه لهم على غير ما ينبغي.(1/218)


يقال: إن كان المراد على غير ما ينبغي أن يكونوا عليه، فنعم هو كذلك على قاعدة الأصحاب، واللأئمة، في ذلك على المقدمين لا عن نظر ودليل، وإن كان المراد على غير ما ينبغي منه حملهم عليه، فذلك إنما يتوجه لو كان ذلك الحمل من قبيل الظن المنهي عنه.
وأما اليقين المستبين اللأئمة على من أظهره وصرح به. قوله: فإنه لا يلزم فيما علمه شخص أن يعلمه أخر. يقال: الأئمة -عليهم السلام- أهل التنوير والتجريب، وهم أجل من أن يجهلوا حال أهل زمانهم المخالطين لهم، مع ظهوره وعدم خفائه، وليس دونهم في الفراسة وقوة الحدس يجهل أن العوام يجهلون دقائق المسائل، التي تدق عن نظر التحاريم حتى وقع فيها الاختلاف والخبط الكثير. قوله: لكن لسنا نسلم أن تسليم العامة للحقوق إلى الأئمة صدر عن تقليد، يقال: نحن مع معرفة ذلك، والقطع به لا يحتاج إلى تسليم، وهو مما لا يعزب عن ذهن ذي الفكر والنظر السليم.
والأخ -أيده الله تعالى- لا يجهل ذلك، ولكنه بنى هذا وأمثاله عل أساس علم الجدل، وقاعدته ونسجه على منواله، وأبرزه في حليته. قوله: حمل المفسقين على السلامة قد تقدم ما هو كالجواب عنه من عدم إنكار الحمل بالقطع على خلافه. قوله: قلنا: بل ذلك مظنون. يقال: الفرق بين العلم والظن ظاهر، لا يخفى على من له درية، وقد وجدنا من أنفسنا العلم الذي لا لبس فيه، بما ذكرناه ولا معنى للرد علينا فيما ادعينا فكل أعلم بحال نفسه. قوله: محمول على أنه اقترن به تلقين الدليل أيضاً. يقال: قد باحثنا كثيراً من المتلقنين والملقنين، فوجدناهم جميعاً عادمين لتلقن الدليل وللتلقين.(1/219)


قوله: ثم المأمور على أنه لا يعتقده إلا لدليل. يقال: كيف يحسن منه أمر غيره بالإقدام على ما لا يأمن كونه خطأ وهو قبيح، والأمر بالقبيح قبيح، ولا معنى لهذا الحمل لأنه لا يصَّور إلا مع كون المأمور مظنة لذلك، بأن يكون عارفاً بأن مثل ذلك يتوقف على معرفة الدليل القاطع مع كونه ممن له أهلية النظر، فأما مع كون ذلك في حكم المستحيل منه، فلا معنى لذلك الحمل، ثم نقول: هلا لقنه مع تلقين التسبق، إن ذلك لا يسوغ له إلا بعد معرفة الدليل، إن كان القصد إرشاده سواء السبيل، ومثل ذلك لم يسمع به عن أحد من الملقنين، ولا أظنه خطر لهم ببال.
قوله: إن صدر عنه التفسيق لا عن دليل. يقال: ولم لا يكون ذلك بعد النظر في أدلة الفسق التي أوردها، واشتد اعتقاده إليها، فإن قطعية الدليل وعدمها، مما يمكن معرفته، لا يبعد الجزم به بل لمن نظر وأمعن الفكرة في أنواع الأدلة، وأقسامها، وما يمكن الاستدلال به دلالة قاطعة منها، فلم يجد دليلاً أن يقطع بعدم حصول القاطع، فإن القرآن ما يدل من آياته دلالة قاطعة متلوة معروفة، والأخبار المتواترة، والإجماع المتواتر إن صح، مما لا اختصاص به لأحد دون غيره من أهل البحث والمعرفة، والقياس متعذر في مسألتنا أو متعسة، ولو أمكن إطلاع بعض دون بعض على الحجة في الأدلة الظنية التي لا حكم لها في مسألتنا. قوله: كونه ينهض حجة في مثل هذا المقام.
يقال: أردنا بذلك الاستظهار بأحوال السلف، وردع المفسقين المستبدين، في تفسيقهم إلى فتوى من ليس كمثلهم في الرتبة، وبيان أن هذه العقيدة المستفيضة من الأمور المستبدعة المستحدثة.(1/220)

44 / 60
ع
En
A+
A-