ومنها ما خرج عما ذكر، فالصحيح أنه ظني لا قطعي، لأن المستند فيه النقل عن الجمهور مع عدم الاطلاع على الخلاف فيه، ومثل ذلك لا يعد قطعياً مع كون المخالفة فيه ممكنة متصورة، ومصداق ذلك قول أحمد وهو من أئمة النقل، وأهل العلو في الطبقة: من ادعى الإجماع فهو كاذب. قوله: فيجب أن يكون فعلهم ذلك إنما كان لأجل وجوبه.
يقال: هذا الجواب غير مقنع، وأكثر ما فيه أن هذه قرينة تفيد الظن كون فعلهم لأجل الوجوب، ومثل هذه القرينة لا بد منها في كل إجماع فعلي يستدل به على الوجوب ولا يقتضي مثل ذلك كون الإجماعات الفعلية قطعية، ولو صح مثل هذا التكليف لأمكن دعوى القطع في كل إجماع فعلي، ولا يلتفت إلى ما ذكره مولانا المهدي -قدس الله روحه- من تضعيف الاعتراض، والحكم بعدم وقوعه، وعدم فطانة مورده، فإن السؤلات في القادحة القادحة لا يكفي في دفعها تضعيفها، وانتقاص موردها. قوله: فهي دعوى مجردة. يقال: بل الدعوى المجردة ما أشار إليه الفقيه -أيده الله تعالى- من حصول العلم الضروري بأن كل واحد من الصحابة يقول بوجوب الإمامة، ونصب الإمام، وأنه لا فرق بين هذا أو بين غيره من التواتريات، كالعلم بأن في الدنيا مكة كما يقضي به مفهوم كلامه -حاطه الله تعالى- وإن لم يصرح بجميعه.
والمعلوم أنك لو سألت مدعي ذلك من العلماء -عادت بركاتهم- عن أعيان الصحابة، المدعى معرفة حالهم في ذلك، أو أعدادهم لما وجدتهم على تحقيق في ذلك ولا إحاطة به، دع عنك من ليس من أهل المعارف، فكيف يعرف مقالة أشخاص أو فعلهم أو عقيدتهم ضرورة من لا يعرف أعيانهم ولا أعدادهم، ولا سمائهم!؟.(1/211)


فإن قيل: ليس معرفة ذلك شرطاً بل المقصود أنه قد تواتر عن أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم-أنه فعلوا أو قالوا كذا، قلنا: التواتر المفيد للعلم الضروري لا بد أن يستند إلى إدراك، وأن يبلغ نقلته عدداً لا يجوز على مثله التواطؤ على الكذب، وأن يتساوى الطرفان والوسائط في العدد المعتبر، فنقول: ما الذي نقل عن جميع الصحابة -رضي الله عنهم- جملة مما هو مدرك ليتعقل حصول العلم الضروري عنه، ثم نقول: أليس الذين فزعوا عقيب موت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-إلى نصب من يخلفه واهتموا بذلك غاية الاهتمام.
هم المجتمعون في السقيفة، والمعلوم أنهم ليسوا كل المعتبرين في الإجماع؟، فإن صح التواتر عنهم، فما الذي نقل عن غيرهم ممن غاب عنهم؟ هل سكوتهم؟ فالمرجع به إلى عدم الإنكار، وهو غير مدرك، فكيف يعلم ضرورة سلمنا، فلا يعلم من سكوتهم أنهم على صفة أولئك المجتمعين علماً ضرورياً، أو غير ذلك فما هو؟، فإن قيل: كلامك هذا ينطوي على القول بتعذر حصول الإجماعات التواترية القطعية، إذ لا يمكن معرفة أعيان الأمة جميعاً، ولا أسمائهم ولا أعدادهم، لمن يدعي العلم بإجماعهم، وإن نقل عنهم أنهم أجمعوا جملة، وأنه تواتر ذلك عنهم، فقد شغبت فيه وشككت على من ندبه.(1/212)


قلت: إن لم يكن ذلك متعذراً فلا كلام في تعسره، وما ادعى فيه قطعية الإجماع فإجماعهم على أن القاطع يقدم على المظنون، ونحوه من المسائل الواضحة، مما أظن التواتر فيه حصل عن ذلك واحد من الأمة، بل لما كان خلافه لا يتصور أن يذهب إليه مميز فضلاً عن عارف عدل ادعى القطع به عن المعتبرين من الأمة. والله سبحانه أعلم.
قوله: بمجرد الاستبعاد ليس بحجة. يقال: لم نجعله حجة ولا إلى أي المطالب بحجة قوله: مع أن الاستبعاد إنما ثبت في غير إجماع الصحابة.
يقال: عدم حاصل منهم، وهو موجب الاستبعاد. قوله: فنحن لا نستدل على ذلك بغيرها.
يقال: هذا اعترافبعدم قطعية دلالة الآية الكريمة على حجية الإجماع، وهو يتضمن الاعتراف بما أشرنا إليه من بيان أن الأصحاب مع دعوى القطع في دلائل مسائل الإمامة لم يثبتوها على قاطع لاستنادهم إلى الإجماع مع استنادهم في حجية الإجماع إلى ما ليس بقاطع فقد أسندوا في الاستدلال على القطعي إلى ما ليس بدليل قاطع، والاستدلال بغير الآية الكريمة لا ينقض ما أراد به.
فإن أصحابنا لم يستدلوا بغيرها مما أوردته معتمدين عليه بل اعتمادهم في ذلك عليها، وإنما المستند إليه الغزالي، ومن تابعه. قوله: على إنما ذكرته من القدح في صحة الإجماع ينقض ما اعترفت به أولاً من أن الإجماع أحد الأدلة القاطعة يقال: ما ذكرته من كون ما أوردته من القدح في صحة الإجماع ينقض ما اعترفت به أولاً من كونه أحد الأدلة القطعية.(1/213)


غير مسلم بل ما ذكرته جلي عن التناقض لا تدافع فيه ولا تعارض، لأني لم أقدح في صحة الإجماع، وإنما قدحت في قطعية دليل من أدلته، والقدح في حجية دليل من أدلته لا يقضي بعدم صحة سائر أدلته ولا يأبى.
أقول: بعدم حجيته ولو قضى بذلك ما قلته من كون محققي العلماء قضوا بظنية دلالة تلك الآية الكريمة على كون الإجماع حجة، وهو صدق لا محالة يقضي بذلك عنك ما صرحت به من تسليم ذلك على الخلو ذهبت مثلاً إلى ظنية جميع أدلة الإجماع لم يكن ذلك ناقضاً لما قدمته من عدة أحد الأدلة لاحتمال كوني عددته منها على قاعدة أكثر العلماء.
وهي أيضاً قاعدة أصحابنا، ونحن فرضنا الكلام فيما نافسناهم فيه على قواعدهم، وحاربناهم على أصولهم.
قوله: بل يحتاج إلى بحث ونظر في مهلة يتمكن فيها من معرفة الأصلح للأمة في أي الأقطار هو، ونحو ذلك. يقال: لا يخفى ما في هذا الجواب من التكلف والتعسف والقول بأن ذلك من الواجبات الموسعة لم يوجب المصير إليه والتعويل عليه إلا ضيق الخناق، وعظم موقع السؤال الوارد ووضوح قدحه، وكذلك جعل وقته الموسع جميع وقت أهل كل عصر حتى ينقرض آخرهم.(1/214)


وأما الاستدلال على ذلك بتباين الأقطار وعدم إمكان الإحاطة بفضلائها عقيب موت الإمام الأول، ففيه تصريح بوجوب الإحاطة بفضلاء جميع الأقطار، ومعرفة الأفضل منهم، وهذا مما لا يعمل به أحد والصحيح خلافه، وهو يقرب من تكليف المحال، ولو كان شرطاً لتطلب إمامة أكثر الأئمة فإنه لم يعلم في أحد منهم أنه لا أفضل منه في وقته في شيء من الأقطار، ويظهر ذلك ظهوراً بيناً في حق الأئمة الداعين باليمن فإنا نعلم أنه لم يتقدم دعوة أحدهم البحث في الشام، والعراق، والغرب، وسائر البلدان حتى حصل العلم بعدم الأفضل على أن أدلة وجوب نصب الإمام من فزع الصحابة عقيب موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقبل مواراته، وما يتوقف من الأحكام الواجبة على الإمام كاشتراطه في الجهاد يقضي بالتضيق، ويدل عليه كما يدل على أصل الوجوب، وعلى عدم الوسع مدة مديدة قدر مائة وخمسين سنة، تتعطل الحدود وينتكس فيها أعلام الجهاد، ويشتد عضد الكفر والعناد، فافهم قوله.
قلنا: ولأنه قد قام الدليل القاطع على وجوب النص على الأمة. يقال: هذا نفس المتنازع فيه الذي لا يقع المساعدة إليه، ولا التقرير عليه، ومثل هذا تعد مصادرة على المطلوب، ولا يقع التسليم لديه. قوله: وهو أشف الأدلة وأقواها، يقال: مع إيضاح عدم قطعيته وإتيانه على ما هو ظني محض وسنبينه فظهر ظنية ما عداه من الأدلة لأن ظنية الأقوى مستلزمة بظنية المفضول، في القوة استلزاماً بيناً على أنه سيتضح لك ما قدمناه من كون الدليل الأول أشف الأدلة وأقواها، بما نحققه من كون هذا الدليل أضعفها وأوهاها.(1/215)

43 / 60
ع
En
A+
A-