تم هذا الجواب الموقور رحم الله منشئه وكاتبه، ومن كتب له برحمته الواسعة ومغفرته الجامعة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله آمين.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم، ونسأله العصمة عن الخطل والزلل، في القول والعمل، آمين.
نحمد الله تعالى على ما أمدنا به من نور الهداية، وكشف عنا من ظلم الجهالة والغواية، ونسأله المزيد من توفيقه والتيسير في الدين، للزوم أوضح طريقة، ونصلي على سيدنا محمد نبيه الناصح للأمة، الكاشف للغمة، الآمر بتنكيب مسالك المهالك، الزاجر عن الإنخراط في سلك الجهل البهيم الحالك، وعلى آله مفاتيح البهم، ومصابيح الظلم، وسلم كثيراً. وبعد.(1/206)


فإنه لما ورد جواب الأخ الفقيه العلامة، الشامة في أرباب المعارف والعلامة، جمال الدين عمدة العلماء الراشدين، أمتع الله تعالى بطول حياته، ودفع الأسواء والمكروهات عن كريم ذاته، تأملته فوجدته شاهداً بكمال معرفته، وزيادة بسطته، وجودة بصيرته، وتوقد قريحته، وصحة عبارته، وقوة بلاغته، وتيقنت أنه قد بلغ في إجابة تلك المذاكرة غاية ما يمكن المجيب، بل لا يبلغ شأوه في ذلك التصرف والترتيب، وأنه قد رزق بلاغة الإنشاء، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، ولكنه -أيده الله تعالى- سلك مسلك الجدال، ورام بجودة فراسته وحسن عبارته، تقويم ما خرج عن حد الاعتدال، نصرة منه للسلف الأمجاد، ورغبة في صيانة ما أورده عن الإفساد، لا ميلاً إلى سلوك سبيل العناد، فإنه والحمد لله من أهل الهدى والرشاد، وقد انضوى جوابه في بعض المسائل على الاعتراف وتصديق المقال، وفي بعضها على الرد والإبطال.
وهأنذا أنبه على ما عدل فيه الأخ -أيده الله تعالى- عن التسليم، وأوضح أن جميع ما أوردته عن الإبطال سليم، حسبما اقتضاه النظرة، وسمحت به الفكرة، غير قاصد لمجرد الهراء ولا جانح إلى جانب المراء، والله سبحانه المطلع على ضمائر القلوب، والمحيط بسرها المحجوب، معترفاً بالتقصير، عالماً بأن الباع قصير، عارفاً بأني إلى تعمد الهفوات وستر العورات فقير، ومن الله تعالى الهداية في البداية والنهاية. قوله: فلعل مولانا -أبقاه الله تعالى- أراد بالأمة بعضهم وبالمعتزلة أكثرهم.(1/207)


إعلم أن خلاف الأصم ومن معه إن صحت الرواية عنهم لا يعتد به، ولا يلتفت إليه، لندرتهم وانقطاع خلافهم، والخلاف واقع بين الأمة وإن خرج عنه بعضهم.
ثم أنه لا وجه لقصر الخلاف، في كون الإمامة قطعية أو اجتهادية، على القائلين بوجوبها شرعاً، فإن القائل يعد وجوبها، أو وجوبها عقلاً لا بد له من الحكم عليها بكونها قطعية أو ظنية، وإنما قلنا: الظاهر من مذهب المعتزلة؛ لأنه لا كلام في أن الظاهر عنهم ما رويناه عنهم فلا حاجة إلى تأويل قولنا المعتزلة بأكثرهم، على أنا لو أضفنا القول هذا إليهم لا على جهة الظهور بل بأن نقول: قالت المعتزلة أو نحوه لكان له مساغ، فقد جرت بذلك عادت العلماء والمصنفين في عباراتهم، بل قد يضاف إلى المعتزلة ما هو قول الأقل منهم، ولما طالعت الأم التي نقلت عنها النسخة الصادرة إلى الأخ أيده الله وجدت لفظ: بين الأمة ساقطاً، والذي فيها: قد وقع الخلاف هل مسائل الإمامة إلى أخره، فذلك مما سارع إليه القلم لا عن تأمل، قوله: ومسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمثل ذلك.(1/208)


أما مسألة الشفاعة فلها تعلق ظاهر بباب الوعيد، الذي هو من فن الكلام، وأما الأمر بالمعروف فالكلام فيه كالكلام في الإمامة، والذي نقلناه عن بعض متكلمي أصحابنا، وأردنا به غير الفقيه قاسم شامل للناس، قوله: ولا أعلم أن أحداً منهم قال: لا حاجة إلى إمام، يقال: ليس عدم علمنا إلى ذلك يدل على انتفاءه على أنا وإن علمنا انتفاء ذلك عنهم جميعاً، فأكثر ما فيه أن يكون ذلك إجماعاً سكوتياً فعلياً، فأين يكون من إفادة القطع؟، على أنا إذا رجعنا إلى أنفسنا وجدنا هذا الدليل لم يكسبها يقيناً، ولم يفدها سكوناً، قوله: علم ذلك ضرورة من حالهم، يقال: وكيف يعلم ذلك من حالهم ضرورة من لا يعرفهم ولا يعلم أعدادهم، ولا سمائهم، ولا أعيانهم؟.
والمعلوم أنك لو سألت أكثر الناس بل كلاً منهم عن الصحابة منهم لما أخبرك إلا بالأقل منهم، فكيف يعلم ما صدر منهم ضرورة من لا يعرفهم؟ وكيف تقيد قرائن الأحوال العلم بالعقائد؟ إنما الذي يفيده قرائن الأحوال العلم بالمرادات.(1/209)


وأما العقائد فلا يعرف بها إلا التعبير عنها. قوله: فسنذكر ما هو أقوى منه، يقال: هذا كالتسليم لعدم إفادته العلم لأن قوة الدليل بحسب إفادته للعلم وإيصاله إلى مدلوله، فإذا كان موصلاً إلى العلم، فلا معنى لكون غيره أقوى منه، إنما يقال مثل هذا في الدلائل الظنية إذ تفاوت في إفادتها للظن، فمنها ما يحصل عنه المقارب، ومنها ما يحصل عنه الغالب، وللظن درجات تتفاوت بتفاوت قوة الأمارات لا العلم، ولا يقال: المراد بالأقوى هو الأوضح، أو الأسلم من الشغب، فمع إفادته للعلم لا يكون لغيره مزية عليه في القوة، على أنه سيتضح كون هذا الدليل أقوى أدلة هذه المسألة، وأن المدعي كونه أقوى أضعف منه.
نكتة: الأقرب عندي أن الإجماعات المروية المدعى فيها كونها يقينية قطعية على وجوه منها:
ما مضمونه القول بما يعلم من الدين ضرورة كجهل الإسلام، ويكفر من خالف فيه ويفسق، فيصح دعوى القطع بالإجماع فيه، وكيف لا وجد من خالف فيه لا يصلي جماعة وموافقته فيعلم إجماع المسلمين عليه، من حيث أنه من خالف فيه لم يعتبر، ومنها ما لا يكفر المخالف فيه ولا يفسق، ولكنه أمر واضح، لا يتصور فيه مخالفة كتقديم القطعي من الأدلة على الظني فيقرب دعوى الإجماع فيه المقطوع به من الصحة من حيث أنه منقول من مشاهير العلماء متواتر عنهم وغيرهم ممن لا يعرفه أولا نقل عنه، لا يتصور مخالفته لأمي حيث النقل التواتري عن واحد واحد من الأمة المعتبرين في الإجماع فذلك متعذر.(1/210)

42 / 60
ع
En
A+
A-