وقد علمنا أن من حاربه من جنس البغاة كمن لم يحاربه، ومن كان في جملتهم كمن حارب الإمام، فلم يكن البغي والخروج عليه فسقا للمحاربة، وإنما كان فسقاً للعدول عن طاعته إلى طاعة غيره، وهذا موجود فيمن عدل عن أمير المؤمنين -عليه السلام- إلى أبي بكر فيجب أن يكون فسقاً قال رحمه الله تعالى وهذا لا يصح التعليق به، وذلك أن الأمة أجمعت على أن البغي على الإمام فسق فمن أظهر نفسه في البغي عليه، وكان من جنس البغاة، فالظاهر من حاله أنه منابذ له ومحارب، إذا لم يكن هناك إكراه.
ومن هذا سبيله فالإجماع قد كشف عن كونه فسقاً، ولا يجب في غيره أن يكون فاسقاً، والدلالة مفقودة، وقد بينا أن القياس في التفسيق والتكفير متعذر من حيث لا يمتنع أن نعرف عظم الفعل، ولا نعرف علة العظم على التفصيل، وإن كنا نعلم إنما عظم لعلة، وبعد فإنه يمكن أن يقال: إن البغي عظم لمفسدة فيه خاصة لا توجد في غيره، ويمكن أن يقال: العلة في عظيمة كونه بغياً على الإمام.
قال -رحمه الله تعالى-: فإن قيل: الباغي كما تعظم بغيه، فقد تعظم اعتقاده في الإمام أنه غير إمام، واعتقاده في الباغي أنه إمام، وهذا يوجب أن يكون غير الباغي بمثابته. قيل له: إذا أفردت اعتقاد الباغي عن بغيه، وخروجه على الإمام حتى لا يبقى إلا الجهل بإمامته، واعتقاده إمامة غيره، فلا دلاله عندنا على كونه فسقا بمجرده، وإنما نعلم أن الباغي فاسق، ويجوز أن يكون وجه العظم إجتماع ذنوب لو انفرد كل واحد منها لم يكن فسقا هذا كله كلام أبو القاسم البستي -رحمه الله تعالى-.
وهو من أهل التحقيق، والنظر في أكثر موارده ومصادره.(1/201)
قلت: وليس لأحد أن يستدل على فسق من نفى أو توقف في غير مهلة النظر بأن يقول: إن للإمام حرب من هذا حاله ومقاتلته على عدم تسليم الحقوق، وجواز الحرب والمقاتلة متفرع على ثبوت الفسق، لأنا نقول: ليس له محاربتهم حتى يدعوهم إلى طاعته، فيتغلبوا وينتصبوا لحربه وحين انتصابهم لحربه ينضم إلى ذلك الاعتقاد ما أوجب الفسق، فيحكم به حينئذ، ومثل هذا يقال في حق الصحابة -رضي الله عنهم-، مع علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه في الجنة- فإنا إذا حكمنا بصحة إيمانهم لم يكن له -عليه السلام- حربهم حتى يدعوهم إلى الطاعة فينتصبوا لحربه، وحينئذ يجوز له مقاتلتهم، والله أعلم.
نعم، وليس لمن يقطع بالفسق أن يعتقد في المفسق أنه صدر عنه التفسيق لا عن دليل لأنه يجوز أن يظهر لبعض الناس من أدلة الشرع ما لا يظهر للبعض الآخر؛ فنسأل الله سبحانه المادة بالهداية إلى القول الفصل المرضي عنده.(1/202)
وأما ما ذكره مولانا من أن التفسيق في ذلك يقضي به معاملة السلف بدليل ما كان بين القاسم بن علي العياني، ويوسف الداعي، وما كان بين بعض أتباع حي الإمام الناصر محمد بن علي بن محمد ومن عارضه، وما كان بين الإمامين الهادي بن علي بن المؤيد، والمهدي أحمد بن يحيى سلام الله عليهما، فقد أطال فيه الكلام مع كونه لا ينهض حجة في مثل هذا المقام، لأن غاية ما تدل سيرهم المباركة هو كونهم لا يقولون بفسق نافي الإمامة، وذلك ليس بحجة على المفسقين؛ لأن المسألة قطعية، والحق فيها مع واحد، وأعجب من هذا استشهاده –أبقاه الله تعالى- بما حكاه بعد ذلك عن المؤيد بالله –قدس الله سره- لأنه –عليه السلام- كان بعيداً عن التكفير والتفسيق حتى أنه لم يفسق المجبرة مع أقاويلهم المنكرة.
وقال مولانا -أبقاه الله تعالى-: وأما منع الصلاة خلف من خالف المؤتم في العقيدة في الإمام من نفي أو إثبات، أو توقف بحيث أن المثبت لا تجزيه صلاته خلف النافي والعكس، وكذلك المتوقف على ما ظهر واشتهر في هذا الزمان، وانتشرت به الفتوى في جميع البلدان، فقد خفى على وجهة فإن الذي تمنع الصلاة خلفه على المذهب فإنه هو الفاسق، ومن في حكمه، وهو المصر على معصية لا يفعلها في الأغلب إلا الفسقة، وأن يعلم كونها فسقاً نحو كشف العورة بين الناس، والتطفيف، والشتم الفاحش غير القذف، واحترزوا بقولهم في الأغلب عما يرتكبه الفسقة، وبعض المؤمنين في العادة كالغيبة، والكذب ونحوهما، إلى آخر ما ذكره هذا المعنى.(1/203)
أقول: أما مع القول بفسق النافي والمتوقف فعدم صلاة المثبت خلفهما على المذهب ظاهرة، وأما مع عدم القول بالفسق فلعل الوجه في منع الصلاة خلف من خالف المؤتم في العقيدة في الإمام هو ما يلحق المؤتم منهما من التهمة بالموافقة في المذهب في الإمامة إذ قد صار الغالب من حال المختلفين في الإمامة هو المجانبة، فإذا صلى أحد المختلفين في الإمامة خلف الأخر اتهم المؤتم منهما بأنه لا يخالف الإمام في العقيدة في الإمامة، وقد ثبت أن الإمامة قطعية الحق فيها مع واحد، فيكون المؤتم منهما قد وقف في موقف من مواقف التهم، وقد قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فلا يقفن مواقف التهم )).
وإذا صح أن ذلك موقف تهمة كان عاصياً فيكون حينئذ قد أطاع بنفس ما به يمضي فلهذا لم تصح صلاته، والله أعلم.
فإن قيل: فلو فرضنا زوال هذا هو الاتهام. قلنا: إذا فرضنا ذلك وجب القضاء بصحة صلاة المؤتم منهما حينئذ، ثم قال مولانا بعد ذلك: هب أنا سلمنا فسق النافي ونحوه فمنع الصلاة خلفه مما لا يصح فيه التقليد والتلقين، إذ هذا من العمل المترتب على علمي، فكيف يحسن تقرير من لا يعرف القواعد على هذه القضية بل الأمر بها، والحث عليها، أقول: قد بينا فيها من هذا ليس من التقليد في شيئ، وأن الأمر إنما أمر العامي بالعمل وبتقديم العلم عليه على أنه قد ذكر في (التقرير) أنه يجوز التقليد في كون الكبيرة تنقض الوضوء إلا في كونها توجب الفسق. قوله: حتى أن كثيراً من المتدينين رفضوا لذلك صلاة الجماعة وأهملوها بالكلية إلى آخره.(1/204)
أقول: أما حيث يختل أحد شروطها فرفضهم لها غير مستنكر بل هو الأولى حينئذ والأظهر، وأما مع تكامل الشروط فلعمري أن رفضها حينئذ خلاف المشروع، وصد الموضوع، كيف وهي شعار الدين، وعلامة إيمان المؤمنين.
وقد ورد على الحث عليها والزجر على تركها ما هو معلوم مشهور، وظاهر غير مستور، فلا حاجة إلى تطويل الكلام بذكره.
وأما صلاة علي -عليه السلام- خلف المشايخ -رضي الله عنهم- فلأنه لم يكن يفسقهم ولا كانت هناك تهمة تلحقه، وكذلك صلاة المهدي خلف الهادي -عليهما السلام- بصعدة؛ وأما تشنيع عبد الصمد الدامغاني فلا ينبغي أن يلتفت إليه، ولا الاعتماد عليه، كيف وقد قال -صلى الله عليه وآله وسلم-((لا يؤمنكم ذو جرأة في دينه )) على أنه قد نقم عليهم في رسالته أموراً صحيحة قضت بها النصوص الصريحة بعدها مثالب، وهي في التحقيق مناقب.
وأما إجازة الإمام يحيى -عليه السلام- بالصلاة خلف المجبرة فمبني على أصله في عدم تكفيرهم وتفسيقهم.
وأما قوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((إنكم تصلون بهم فما صلح فلكم ولهم ، وما فسد فعليكم دونهم)) فالمراد ما فسد لأمر فيكم لم يعلمه المؤتمون من حالكم، والله سبحانه وتعالى اعلم.
هذا أخر ما سمح به الفكر الفاتر، وسنح للنظر القاصر، فإن جاء مرضياً فبتوفيق الله تعالى وإلهامه وتمكينه، وإلا فمن تصور منشئه فيما ينتجيه فليتلقاه الواقف عليه بالاحتمال، والإغضاء عما حواه من الاختلال، والله سبحانه وتعالى المسؤول أن يهدينا هدى الصالحين، ويذودنا عن موارد الخاطئين، بمحمد الأمين، وآله الأكرمين، وصلى الله على سيدنا محمد عبده ورسوله.(1/205)