العلماء الإنكار على العوام جميع[ما] اعتقدوه من ذلك، وخلافه معلوم لا ذلك إلا بما ذكرناه من الحمل على السلامة.
وأما ذكره مولانا -أبقاه الله تعالى- من أن أكثر المعتزين إلى الأئمة القائلين بإمامتهم، الممتثلين لأوامرهم ونواهيهم، المترتبة على صحة الإمامة وثبوتها، لم يقدموا على ذلك لنظر اقتضاه، ولا دليل أوصلهم إليه، فذلك حمل منه لهم على غير ما ينبغي سواء جعلنا الإمامة ظنية أو قطعية، ثم لو سلمنا أن ذلك معلوم لمولانا من حالهم، فمن أين أن الأئمة قد علموه أيضاً حتى يلزمهم الإنكار!؟ فإنه لا يلزم فيما علمه شخص أن يعلمه أخر.
قوله: وليس لقائل أن يقول: كثير من المسائل القطعية يصح التقليد فيها، فإنا نقول: ذلك لا يصح إلا فيما كان منها عملياً لا يترتب على علمي، قلنا: هذا صحيح، لكن لسنا نسلم أن تسليم العامة للحقوق إلى الأئمة، صدر عن تقليد بل هو كتسليمهم لها إلى النبي –صلى الله عليه وآله وسلم-سواء سواء، وهذا إتمام جملة ما يتعلق بالجهة الثانية من الكلام.(1/196)
الرد على المفسقين في إمامة الإمام المتوقف فيها
وأما الجهة الثالثة فقال -أبقاه الله تعالى-: والعجب مما ظهر في زماننا من تجاسر غير العارفين من المثبتين للإمامة على تفسيق النافي لها والمتوقف ولعنه، واعتزال الصلاة خلفه، مع أن التفسيق لا يصح الأخذ فيه والإثبات له إلا بالبرهان القاطع الذي لا مانع له ولا مدافع من كتاب صريح، وخبر متواتر صحيح، أو إجماع قطعي، واستبعدوا أن يكون القياس من طرقه لتعسر القطع بعلة الحكم، وانحصارها وعدم تعددها، والمعلوم أنك لو سألت كل واحد من هؤلاء المذكورين عن معنى الفسق وأسبابه وطرقه وأحكامه؟ لما درى كيف يجيبك دع عنك العلم بكون نفي الإمامة، أو التوقف فيها يقتضيه، وفي الحقيقة أن التعجب من علماء زماننا الراسخين في العلم كثرهم الله تعالى ونفع بعلومهم، كيف سكتوا عن من هذه صفته مع وجوب التنبيه، والتعريف بما يتحتم في الدين الحنيف!!؟، فإنه إن سلم ثبوت الفسق في هذه المسألة لم يحسن تقرير أرباب التفسيق من غير استدلال وتحقيق، بل يجب الإنكار عليهم والإعذار في ذلك إليهم.
فما ظنك بمن يلقن الجهلة ذلك ويفتيهم به ويأمرهم باعتقاده، أقول: لا شك في خطأ من فسق بغير برهان، وقد ورد من الوعيد عليه ما لا يخفى على إنسان، لكن الواجب حمل المفسقين على السلامة، وأن التفسيق صدر منهم عن دلالة.
قوله: والمعلوم أنك لو سألت كل واحد من هؤلاء إلى أخره، قلنا: بل ذلك مظنون لقرنية خفى دليل الفسق على من هو مثلهم، والواجب إطراح الظن وإيثار الحمل على السلامة، فقد يظهر لبعض الناس من أدلة الشرع ما يخفى على أخر.(1/197)
قوله: وفي الحقيقة أن التعجب من علماء زماننا!!. قلنا: إنما سكتوا لأنه غلب في ظنهم أن التفسيق وقع من المفسقين عن برهان، والإنكار لا يجب بل لا يحسن إلا بعد العلم بأن الواقع منكر، وأما تلقين الجهلة ذلك وأمرهم باعتقاده فهو إن سلمنا وقوعه محمول على أنه اقترن به تلقين الدليل أيضاً والأمر باستعماله.
ثم إنا نقول: وأي محذور باعتقاد ذلك؟ إذا كان الآمر يعتقد التفسيق لدليل قاطع عنده فإنه يحسن منه أمر غيره بالاعتقاد، ثم نحمل المأمور على أنه لا يعتقده إلا لدليل، كما يأمره باعتقاده الصانع مثلاً أو صفاته، فإن قال: إن المراد باعتقاد الصانع هو العلم به، فهو إنما أمره بالاعتقاد الواقع على وجهه والعلم إنما يصدر عن دليل.
قلنا: وكذلك هذا نقول: فما وجه التشنيع؟ قال مولانا –أبقاه الله-: ثم إنا نقول: أي الأدلة المعتبرة دل على فسق من ينفي إمامة الإمام؟ أو يتوقف فيها؟ وأي طرق والعقل اقتضى ذلك؟.
أما العقل فلا مجال له هنا، فما حجة القائلين بذلك؟، والذاهبين إليه من أدلة الشرع؟ أما أكثر أئمتنا، وعلمائنا، فالظاهر عنهم القول بعدم التفسيق، ولهذا نقل عنهم حسن الثناء على المشائخ المتقدمين على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه في الجنة-، والترضية عليهم، والتعظيم العظيم لهم، مع أن أولئك المشائخ المذكورين نفوا إمامة علي -عليه السلام- وزادوا على النفي بما ظاهره البغي فإنهم تصدروا وأهلوا نفوسهم للإمامة، ورأوا أنهم أولى بها منه.(1/198)
هذا وإمامته -عليه السلام- أظهر من إمامة غيره، لقيام النصوص عليه، ووضوح الأدلة على عصمته، وكثرة فضائله، وعلو شأنه، وارتفاع مكانه.
ويقول: سلمنا أن الإمامة قطعية، فليس من لازم كل قطعيته أن المخطئ فيها فاسق إذ ليس كل خطأ كبيرة فإنه لا يثبت كون المعصية كبيرة إلا بدليل كما ذكروه من ثبوت الحد عليها، أو التصريح بعظمها أو فحشها أو كبرها، أو نحو ذلك، أو الوعيد عليها بعينها على خلاف في ذلك.
ولا أعلم حصول شيء من ذلك الطرق في مسألتنا. أقول: اعلم أن التفسيق في هذه المسألة مما عظم فيه الإشكال، وكثر فيه القيل والقال، والناس بذلك فريقان، فريق قطع بالفسق، وفريق لم يقطع به، لعدم قيام الدليل عنده، وقد قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((المؤمن وقاف عند الشبهات )) وقال علي -عليه السلام-: لأن أخطئ في العفو أحب علي من أن أخطئ في العقوبة، وإلى هذا قال جماعة من حذاق العلماء رحمهم الله تعالى:
قلت: وبقولهم أقول، قال الإمام المهدي -عليه السلام- في (الغايات) ما لفظه: وأما الخلاف الواقع بين الزيدية والمعتزلة في الإمامة هل يؤدي التفسيق أم لا؟! فقد ذكر كثير من شيوخنا أن من دفع إمامة إمام ثابت الإمامة وأنكر أو جهل، فهو كمن حاربه ونابذه في أنه فسق.
قال الشيخ أبو القاسم البستي: وإلى هذا ذهب كثير من الزيدية، قال: والذي يختاره أنه لا دلالة على تفسيق من جهل إمامة الإمام إذا لم يقترن به خروج عليه ومحاربته.(1/199)
قال الإمام المهدي -عليه السلام-: وهذا هو الحق عندي، قال -عليه السلام-: ولا بد في إيراد كلام في تبيين الحق من ذلك، فنقول: إعلم أن شيوخنا المتكلمين من المعتزلة -رحمهم الله تعالى- إنما قالوا: إن الخروج على الإمام على جهة البغي، ونفي إمامته، والطعن فيه والقعود عن نصرته، مع الإمكان من غير عذر سواء في الحكم وأن كلاً من الأمرين فسق لا فرق بينهما.
وزعمت الإمامية أن مخالفة الإمام المفترض الطاعة، والجهل بأمره، وموالاة عدوه كفر، وفيهم من يقول: إنه فسق، وإن لم يكن كفراً، وربما يسمى من هذا سبيله مسلماً، ولا نسميه مؤمناً.
وفي الزيدية من يقول بتفسيق من لم يعرف إمامة الإمام، ويجري جهله بإمامته مجرى الخروج عليه، والعداوة له، والذي عليه التحصيل من الزيدية أن الخروج على إمام الحق فسق، فأما الجهل بإمامته إذ ادَّعى الإمامة لغيره، أو الجلوس مجلس الإمام في غير وقت إمام يحرم مخالفته، أو في وقت إمام منصوص عليه لكنه لم يقم بالأمر كعلي بن أبي طالب -عليه السلام- أيام الشيخين فلا دلالة على كون ذلك فسقاً. هذه ألفاظه -عليه السلام- في (الغايات)، ومثله ذكر الشيخ المحقق أبو القاسم البستي في كتاب (البحث والتحقيق عن أدلة التكفير والتفسيق).
ثم قال -رحمه الله تعالى-: بعد أن ذكر ما جرى في الصدر الأول: وقد استدل على أن العدول عن إمامة الإمام فسق، والجهل به واعتقاد إمامة غيره بضروب من القياس، إذ النص غير ممكن، فمن ذلك أن الخروج عليه فسق.(1/200)