وأما الأصل الخامس
وهو أنه يثبت بذلك وجوب الإمامة فلا ما لا يتم الواجب إلا به يجب كوجوبه فلا شك فصح، وثبت ما رمناه من وجوب الإمامة على الأمة قطعاً وبطل قول المخالف.
وهذا البرهان قطعي واضح الأركان، إذ بعض أركانه معلوم ضرورة، وبعضها بدلالة قطعية لا مدخل للتشكيك فيها، فهذا جملة ما يدل على وجوب نصب الإمام قطعاً.
وأما ما يدل على سائر الفروع فسيساق إليك إن شاء الله تعالى، ثم قال مولانا -أبقاه الله تعالى- مشنعاً مستدركاً: فانظر إلى هذه الأدلة التي رسمت بكونها يقينية وانظر إلى تركهم إيراد أدلة على سائر أطراف مسائل الإمامة وتفاصيلها. أقول: صحة تسميتهم لها يقينية تبتنى على اندفاع ما ورد عليها من المطاعن، وقد أردنا في دفعها ما يشفي ويكفي بحمد الله تعالى، إلا الدليل الثاني فإنا لا ننازع في ضعفه وقوة ما ورد عليه كما قدمنا، وأما استدراك مولانا عليهم بقوله: إنهم تركوا إيراد أدلة أدلة على سائر أطراف مسائل الإمامة، فهو غير مسلم إذ لم يهملوا ذلك بل قد أوردوا من الأدلة على ذلك ما لا يخفى.
أما وجوب اتباع الإمام فقد استدلوا عليه بقوله تعالى: {يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ }[الأحقاف: 31] الآية، وقوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((من سمع واعيتنا أهل البيت )) الخبر ونحو ذلك من الأخبار المتفقة على معنى واحد، واستدلوا أيضاً على ذلك بأنه قد قام الدليل على وجوب الإمامة والانتصاب لها، فمن انتصب لها مع كمال الشروط فيه بأنه قد امتثل ما أمره الله تعالى به من الإمامة توجب علينا طاعته واتباعه.(1/191)


وأما معرفة شرائط الإمام فقد استدلوا على وجوبها بالإجماع، قال السيد في (شرح الأصول) ما معناه فإنه لا خلاف بين الأمة في وجوب معرفة إمام الزمان يعني معرفة ما اختص به من الصفات المعتبرة، واستدلوا أيضاً على ذلك بأن الإمامة هي الدرجة الثانية من النبوة.
وقد ثبت وجوب معرفة النبوة على كل مكلف عامي وغيره فكذلك يجب مثله في الإمامة فإن الإمامة لم تنقص عنها إلا في درجة واحدة، وهو الوحي لا غير، وإلا فما اختص به النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-من الأحكام قد اختص به الإمام غالباً، واستدل بعضهم على ذلك أيضاً بأنه يجب على المكلفين إجابة دعوة الإمام والانقياد لأمره، ومن القبيح أن ينقادوا لأمره، ولما يعرفوا هل هو إمام أم لا؟!.
وأما وجه اشتراط كل واحد من الشرائط، وسائر ما أشار إليه مولانا من الفروع؛ فكلامهم فيه ظاهر في غير موضع، فلا حاجة إلى تطويل الكلام ببيانه، فهذا جملة ما يتعلق بالجهة الأولى من الكلام.(1/192)


بيان ما يلزم على القول بكون الإمامية قطعية
وأما الجهة الثانية: فقال -أبقاه الله تعالى-: ثم نقول: إذا صح هذا المذهب، وهو أن الإمامة قطعية لا يجوز الأخذ فيها إلا بالدليل القاطع، وأن الحق فيها مع واحد لزم على هذه القاعدة كل واحد من المكلفين، مع وجدان من يدعي الإمامة أن ينظر في المسألة أصولها وفروعها، ولا يجوز له الإقدام ولا الإحجام، ولا الإثبات ولا النفي، إلا بعد أن يطلع على أدلتها ويعلم حصول العلم اليقين له عنها حتى ينتهي إلى العلم بوجوب متابعة هذا الداعي وصحة دعواه أو خلاف ذلك وإلا كان مخطأ.
إنما سواء وافق الحق في نفس الأمر أم لا لأنه لا فرق بين الإقدام على الخطأ وبين الإقدام على ما لا يؤمن كونه خطأ في القبيح، ولزم أن لا يصح التقليد في شيء من مسائل الإمامة، ولا الرجوع فيها إلى أقوال العلماء كغيرها من المسائل القطعية التي لا يصح التقليد فيها.
وقد ذكر بعض مذاكري المذهب، وهو الفقيه ل ما يقضي بهذا في حق من بلغته دعوة للإمام ولم يتمكن من النهوض إليه، قال -رحمه الله تعالى-: والظاهر أنه لا يعتقد إمامته حتى يحصل إجماع من العلماء عليه، أو تواتر الخبر بجمعه للشروط لأن المسألة قطعية، ولا يجوز الدخول بالتقليد إلا عند من جوزه في مسائل الأصول، ونظره الفقيه ل -رحمه الله تعالى- بأنه ما يكاد يتفق ذلك، ولا وجه للتنظير لأنه لا عبرة بالاتفاق وعدمه، والذي يقتضيه أصول أهل المذهب ما ذكره الفقيه ل.(1/193)


أقول: هذا الإلزام الذي ذكره مولانا ملتزم وليس محذور يخاف، ولا مجال يلزم، وكلام الفقيه ل في ذلك خير لا عوج فيه، وهو ظاهر كلام أصحابنا في مواردهم ومصادرهم، وقد صرح به الفقيه قاسم بن أحمد إلا في تفصيل العلم فإنه سوغ للعوام تقليد العلماء، قال: لأنه لا طريق لهم سوى ذلك، ولهذا قال الإمام المهدي أيضاً، فإنه ذكر: أنه يجب على العامي معرفة ما عدا العلم من الشرائط إما بالخبرة أو بالتواتر.
قال: وأما الاجتهاد فلا طريق له إلى اختصاص الإمامة به إلا نقل الناقلين من العلماء المجتهدين، إذ كل عالم بفن يخبر أنه وحده عارفاً للقدر المحتاج إليه من فنه.
قال -رضي الله عنه-: فإذا نقلوا ذلك فللعامي الأخذ بنقلهم، وإن لم يبلغ حد التواتر، لأن شرط التواتر المقيد بالعلم هنا مفقود، وهو الاستناد إلى المشاهدة، والعلم لا يشاهد، لكن تدل عليه الأقوال فقط فالتواتر حينئذ هنا لا يفيد علماً فيتحرى بالظن.
قال رحمه الله تعالى: فإن اختلف الناقلون في كمال علمه، رجع إلى الترجيح صحة نقلهم فإن حصل ترجيح عمل به وإلا فالواجب الوقف حينئذ قال الفقيه قاسم: وقد اختار بعضهم جواز التقليد للعوام في معرفة الإمام، واجتماع الشروط فيه وهو ضعيف. انتهى.
ثم قال مولانا -أبقاه الله تعالى-: ومن توابع القول بكونها قطعية أنه يلزم الأئمة وغيرهم الإنكار على من اعتقد صحة إمامتهم من غير فهم القواعد والوصول في ذلك إلى العلم اليقين، لأن من كانت هذه صفته مقدم على قبيح ومرتكب له، والإنكار على مرتكب القبيح واجب، إلى آخر ما ذكره في هذا المعنى.(1/194)


أقول: الواجب على الأئمة حمل أتباعهم على السلامة، وأن ما أقدموا عليه من الاعتقاد وتوابعه من تسليم الحقوق ونحوها، كان عن دليل وليس عليهم أن ينكروا على الاتباع قبل أن يعلموا حقيقة أمرهم، وأما بعد علمهم بأن اعتقادهم صدر لا عن دليل فلا شك في لزوم الإنكار حينئذ.
فقد ساعدنا مولانا إلى ما رام من لزوم الإنكار على من كانت تلك صفته، فإن قال: إنا قد علمنا الأئمة أنهم لم ينكروا، فإما حكمنا بخطأ الأئمة أو بكون المسألة ظنية؛ قلنا: قد دللنا على أنها قطعية فإن صح عن الأئمة أنهم تركوا الإنكار كان ذلك دليلاً على عدم علمهم بحال الأتباع لا على خطأهم بتركهم الإنكار عليهم، ولا على كون المسألة ظنية، ومع عدِّ علمهم لأنكرتهم الإنكار كما قدمنا، ويصير حال الأئمة في ذلك كحال النبي –صلى الله عليه وآله وسلم-فإذا حسن من النبي –صلى الله عليه وآله وسلم-أمر العربي الجلف باعتقاد نبوته، وتسليم الحقوق إليه، من غير أن يأمره بتقديم النظر في ذلك، حملاً لمن اتبعه على السلامة فبالأولى أن يحسن ممن هو دونه، وهو الإمام، أمر العوام باعتقاد إمامته وتسليم الحقوق إليه، مع حملهم بعد الاتباع والتسليم على أن ذلك كان عن دليل، فإن قال: إن بين المسألتين فرقاً فإن مسائل الإمامة أخفى من مسائل النبوة، لا نسلمه فإن في مسائل النبوة ما يحتاج إلى دقيق النظر، بل لو ادَّعى العكس في ذلك لأمكن، ثم سلمنا ما ذكره من زيادة خفاء مسائل الإمامة على مسائل النبوة، فلا شك أن في سائر مسائل الأصول ما هو أدق وأخفى من مسائل الإمامة، وكان يلزم النبي –صلى الله عليه وآله وسلم-وسائر(1/195)

39 / 60
ع
En
A+
A-