وأما قوله: إن كل مسألة يكون دليلها الإجماع؛ فالأقرب عدم تأتي القطع فيها إلى آخره فيقال له: ولمَ قلت ذلك؟ هل لاستبعاد تحقق وقوع الإجماع؛ كما ذهب إليه بعضهم؟ فمجرد الاستبعاد ليس بحجة مع أن الاستبعاد إنما يثبت في غير إجماع الصحابة –رضي الله عنهم-، والمدعي في الدليل إنما هو إجماعهم أو قلت ذلك لفقد التواتر في النقل كما ادعيت، فقد مرَّ الكلام على ذلك؛ أو من حيث أن دليل صحة الإجماع غير قوي، فهذا قد أوردته أخراً حيث قلت ولو قدرنا حصول شرائط الإجماع وتواتر..إلخ. وهو غير قادح لأن الآية الكريمة التي ذكرتها؛ وإن لم تفد القطع بكون الإجماع دليلاً فنحن نستدل على ذلك بغيرها، وهو قوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((لا تجتمع أمتي على ضلالة )).
ووجه الاستدلال به هو أن نقول: إن معنى هذا الخبر قد ورد وروداً متواتراً بألفاظ نقلت أحاداً، كما في شجاعة علي -عليه السلام- وسخى حاتم؛ فإنه وإن كانت الوقائع الدالة على الشجاعة والسخى نقلت آحادا إلا أن المعنى الحاصل من تلك الوقائع نقل نقلاً متواتراً، وهذا الوجه قد استحسنه ابن الحاجب على أن ما ذكرته من القدح في صحة الإجماع ينقض ما اعترفت به أولاً من أن الإجماع أحد الأدلة القاطعة فخلص هذا دليل سليماً عن المطاعن.(1/181)
الدليل الثاني
إن الله تعالى فرض الحدود وأمر بإقامتها في نحو قوله تعالى:
{فَاْقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا }[المائدة: 38] وأجمعت الأمة على أنه لا يقوم بها إلا الإمام، أو من يلي من قبله، قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((أربعة إلى الولاة )). الخبر فيجب نصب الإمام لأنه لا يتم الواجب إلا به وهذا الدليل هو الذي اعتمده الإمام القاسم بن إبراهيم -عليه السلام- في كتاب (الدعامة)، واعتمده أبو علي الجبائي، في كتاب المبتداء، واعتمده أبو هاشم في (الأنوار)، واعتمده الفخر الرازي في (نهاية العقول).
قال مولانا -أبقاه الله تعالى- معترضاً على هذا الدليل، بعد أن حكاه عن الأصحاب: وهذا يترتب على ثبوت هذا الإجماع المدعى، ويقيم تواتراً، وفي ذلك من البعد ما لا يخفى بل هو في حكم المتعذر المستحيل. أقول: قد اعترض هذا الدليل باعتراضين:(1/182)
أحدهما: هو الذي أورده مولانا -حفظه الله تعالى- وهو لعمري اعتراف قوي؛ وكيف تصح دعوى إجماع الأمة في إقامة الحدود، أو في غيرها من سائر الأحكام المذكورة، مع أن أبا حنيفة -رضي الله عنه- تحيز للأمر إقامة الحدود، وإن لم يكن ثم إمام فجعل أمرها إلى أهل الشوكة.هـ. والحشوية وكل من خالف في وجوب الإمام لا يجعلون الإمام شرطاً في إقامة هذه الأمور، والجمعة فيها الخلاف الظاهر أعني في كون الإمام شرطاً، وكذلك الفيء والصدقات فكيف يمكن دعوى إجماع الأمة مع هذا الخلاف!؟ فإن ادعى إجماع الصحابة فهو بعيد أيضاً؛ لأن أبا حنيفة والشافعي -رضي الله عنهما- أقرب عهداً، وأعرف لمواقع إجماعهم، فلو عزموا إجماعهم على أنها تختص الإمام ولا تجوز من غيره لما يصححوها من دونه.(1/183)
الاعتراض الثاني
ما حكاه مولانا معناه، عن الفقيه يحيى بن حسن القرشي -رحمه الله تعالى- حيث، قال: ما آمنكم أن يكون الأمر بإقامة الحدود مشروطاً بحصول الإمام ووجدانه، وهذا الاعتراض أورده الشيخ أبو عبد الله البصري، وجعله قادحاً على هذه الدلالة وضعفها لأجله، وجوابه ما أشار إليه مولانا أبقاه الله تعالى: إن الأمر بإقامة الحدود وما ورد مطلقاً لزم تحصيل شرطه، ولم يتوقف وجوبه على حصول شرطه، وذلك واضح، قال مولانا حاكياً عن القرشي: وأورد اعتراضاً أخر، وهو أنه لو كان نصب الإمام واجباً على الأمة لما أجمعوا على ترك هذا الواجب، ولا كلام في خلو بعض الأزمنة عن الإمام، وإن وقع الشك في جواز الخلو عمن يصلح للإمامية.
قال: وهذا أقوى كما ترى. أقول: هذا الاعتراض غير وارد على شيء من الأدلة إنما هو وارد على نفس المذهب، وهو القول بوجوب نصب الإمام فلا يقدح، وقد حكم مولانا له بالقوة ونص عليه بالصحة، ويمكن الجواب بما ذكره الإمام المهدي -عليه السلام- من أن الإمامة وإن كانت واجبة على الأمة فوجوبها على أهل كل عصر موسع غير مضيق في سائر الأقطار، واختلاف الأنظار في طلب الصالح لها وتعيينه.(1/184)
وإذا كان وجوبها موسعاً لم يظهر لنا إخلال الأمة بها؛ إلا حيث قدرنا أن أهل عصر انقرضوا كافة، ولم يقم فيهم قائم حق، وهذا لا سبيل إليه، فإنا نعلم أن الأمة لم تخلُ من قائم حق مدة مديدة يقطع فيها بانقراض كل أهل عصر إذ لا يغلب في الظن ذلك إلا في قدر مائة وخمسين سنة مثلاً، والمعلوم ضرورة من بعد الرسول –صلى الله عليه وآله وسلم-أن الأمة لم تخل هذا المدة المديدة من قائم حق بل لا يزال أئمة الحق داعين قائمين، وإن وقعت فترة بين القائمين فإنما هي مدة يسيرة لا ينقضي فيها من أهل العصر إلا القليل، فلم يجمع أهل حينئذ على إخلال بواجب.
قال -قدس الله روحه-: وإنما قلنا: إن وجوبها موسع غير مضيق لما علمنا أنه يجب تحري الأفضل والأقطار متباينة لا يمكن الإحاطة بفضلائها وأحوالهم عقيب موت الإمام الأول بل يحتاج إلى بحث ونظر في مهلة يتمكن فيها من معرفة الأصلح للإمامة في أي الأقطار هو أو نحو ذلك.
قلت: ولأنه قد قام الدليل القاطع على وجوب النصب على الأمة، وهذا الاعتراض غير وارد على شيء من أركان ذلك الدليل فلو لم يحكم بكون وجوبه موسعاً لكانت الأمة قد أجمعت على الإخلال بالواجب، وذلك باطل فصح كونه النصب واجباً موسعاً بما لا يخفى صحته، و بذلك ظهر لك ضعف هذا الإيراد وأنه عار عن الصحة والسداد.(1/185)