2- أو ثقة بإجماع الصحابة للنظر في ذلك، وأنهم يرجعون إلى مشاورته بعد خوضهم في ذلك، وإتقان النظر فيه، فيهديهم إلى الحق، وعلى الجملة فما سمع عن أحد منهم أنه قال: لا حاجة بنا إلى الخليفة نسمع له ونطيع، بل يبقى كل أمر إلى نفسه، بل قرائن الأحوال المفيدة للعلم تشهد بأنه لو صدر هذا الكلام من أحد منهم لنهروه، وكرهوه وسفهوه، لعلمهم ضرورة مخالفة رأيه، لما يصلح به أمر الأمة، وقد يستفاد العلم عند قوة القرائن، ألا ترى أنا نعلم كثيراً من أحوال غيرنا ضرورة بقرائن تشهد بذلك، وهذا الدليل اعتمده أبو هاشم في بعض المواضع، وذكره جماعة من أصحابنا، واستدل الفخر الرازي مع الدليل الثاني الذي سنذكره.(1/176)
قال الإمام المهدي أحمد بن يحيى -عليه السلام-: وهو قوي جداً على قول من جعل الإجماع حجة قاطعة، وأما مولانا أبقاه الله تعالى فإنه بعد أن حكاه عن أصحابنا، وقضى بكونه أشف أدلتهم هنا، اعترضه بأن قال وهذا الدليل عن القطع بمراحل، وكيف وهو إجماع فعل فقط، وعدم حصول التواتر في النقل عن كل واحد من الصحابة معلوم، وكل مسألة يكون دليلها الإجماع، فالأقرب عدم تأتي القطع فيها، وهي بأن تكون ظنية أو لا وهيهات!! أن تجتمع شرائط الإجماع القطعي في حق أئمة النقل والتنقير، فكيف بأهل الإجمال والعقول الكبير، ولو قدرنا حصول شرائط الإجماع وتواتره عن كل واحد من الأمة، فقد ورد على ما يجعله دليلاً على كون الإجماع، وهو الآية الكريمة: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ }[النساء: 115] ما ورد وحكم عليها الفحول بأنها من الظواهر، وليست من الصرائح في الدلالة، هذا أخر ما ذكره مولانا من القدح في هذا الدليل.
وأقول: لقد بالغ -أبقاه الله تعالى- في تضعيف أدلة أصحابنا، على هذه المسألة حيث حكم أولاً على هذا الدليل بأنه أشف أدلتهم في ذلك، ثم قضى ثانياً بأنه عن القطع بمراحل، ونحن لا نساعده إلى واحد من الطرفين.(1/177)
أما الأول:
فلأن هذا الدليل وإن كان عندنا قوي فمستذكر ما هو أقوى منه إن شاء الله تعالى.(1/178)
وأما الثاني:
فلأنه عندنا قوي صحيح، غير بعيد من الحق الصريح، لا طعن فيه لطاعن، وما أورده من الاعترضات فيجاب عنه.
أما قوله: إنه إجماع فعلي، فهذا قد أورده الفقيه يحيى بن حسن القرشي _رحمه الله تعالى- في (المنهاج)،وتحريره: إن هذا إجماع فعلي واجتماع الأمة على فعل لا يكون حجة على وجوب ذلك الفعل إلا إذا علمنا أنهم إنما فعلوه لوجوبه عندهم وظهر لنا ذلك.
فأما مع جهلنا الوجه الذي أوقعوا عليه ذلك الفعل فلا وجه للاحتجاج به، ونحن لا نعلم أنهم فزعوا إلى نصب الإمام لوجوب ذلك، ولا طريق لنا إلى القطع به، ومن الجائز أنهم إنما فزعوا إلى ذلك لكونه أصلح لهم في دنياهم لا دينهم، أو لكونه أولى في صلاح الدين أيضاً، لا لوجوبه عليهم وجوباً حتماً، كما في صلاة الوتر فإن إجماعهم على فعلها لم يدل على خفي بها ومع هذا الاحتمال لا يستقيم الاحتجاج بذلك على أن الإمامة واجبة على الأمة.(1/179)
والجواب: إنا لا نسلمبما ذكره من الاحتمال؛ لأن المعلوم ضرورة أنه يجب على كل مسلم نصرة الإسلام، وتوهين أركان الكفر؛ ما أمكنه حسبما يستطيع من ذلك، وكل عاقل يعلم ضرورة أن بقاء الأمة بعد موت الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم-فوضى؛ لا أمير لهم ينظم أمرهم، ويجمع كلمتهم، ويتفرغ لسد الثغور، وإصلاح ما أفسده الجهال والضلال هدم لما كان -صلى الله عليه وآله وسلم-شيده، وخرقاً لما كان قد سدَّده؛ فإن الأمة حينئذ أشبه بغنم لا يحفظها راع عن موانع الطلب، ولا يحرسها عن أن يعبث فيها الذئاب فتذهب وفرتها كل الذهاب، والمنكر لذلك معاند دافع للعلم الضروري من جهة العادة لا إشكال في ذلك، فعلم أنهم إنما فزعوا إلى نصب الإمام لتقوية أمر الإسلام، ولا شك أن تقويته عليهم فرض واجب وحتم لازب؛ فيجب أن يكون فعلهم ذلك إنما كان لأجل وجوبه وهو المطلوب، وهذا الجواب ذكره الإمام المهدي، وبالغ في تضعيف الاعتراض حتى قال:
إنه غير واقع ولا يصدره عن فطانة. وأما قوله: إن عدم حصول التواتر في النقل عن كل واحد من الصحابة معلوم؛ فهو دعوى مجردة قد دخل فسادها في أثناء الدليل المذكور، وكيف يدعي العلم بعدم حصول التواتر في النقل مع حصول إمارة التواتر فيه، وهو العلم الضروري يوضحه، لا نجد فرقاً بين هذا العلم وبين كثير من العلوم التواترية؛ فما ورد هنا ورد هناك ودعوى الفرق غير واضح.(1/180)