الجهة الثالثة:
الرد على المفسقين في إمامة الإمام المتوقف فيها. أما الجهة الأولى: فقال أبقاه الله تعالى: قد وقع الخلاف بين الأمة هل مسائل الإمامة من المسائل القطعية، التي لا يأخذ فيها إلا بالأدلة القاطعة، أم هي من المسائل الاجتهادية، التي هي لإنظار المجتهد تابعة، فالظاهر من مذهب أئمتنا ومشايعيهم والمعتزلة ومشايعيهم، أنها قطعية يتعلق التكليف فيها بالعلم اليقين، وأن الوصول فيها إلى العلم لازم لجميع المكلفين، ولذلك ألحقوها بفن أصول الدين، وليست علما بالله تعالى ولا بصفاته، ولا بأفعاله ولا بأحكام أفعاله، وأشار بعض متكلمي أصحابنا إلى تجويز كون السبب في ذلك من حيث أنه مطلب منافع العمل فيها الاعتقاد الذي هو العلم دون الظن، ثم نظر وأشار إلى تعليل أخر رمز إليه الفقيه حميد رحمه الله تعالى في وسيطه لا حاجة إلى ذكره هنا، مع أن الأليق بها فن الفقه، وإن كانت قطعية إذ هي من المسائل الفرعية والأحكام الشرعية.
أقول وبالله التوفيق: اختلف القائلون بأن الإمامة غير واجبة عقلاً هل هي واجبة شرعاً أم لا؟! فقال أكثر الأمة من العدلية والجبرية: إنها تجب شرعاً.(1/171)
وقال أبو بكر الأصم من المعتزلة، وهشام الفوطي، وبعض الحشوية، والنجدات من الخوارج، وبعض المرجئة: إنها لا تجب لا عقلاً و لا شرعاً، لكن إن تمكن الناس أن ينصبوا إماماً عدلاً من غير إراقة دم ولا جور فحسن، وإن لم يفعلوا ذلك وقام كل امرئ منهم بأمر منزله، ومن يشتمل عليه من ذي قرابة ورحم وجار، وأقام فيهم الحدود والأحكام، على كتاب الله تعالى وسنة نبيه –صلى الله عليه وآله وسلم- جاز ذلك، وإن لم يكن لهم إلا إمام ولا يجوز إقامته بالسيف والحرب، هكذا حكى نشوان بن سعيد في (شرح رسالة الحور العين)، وحكى الفخر الرازي عن هشام الفوطي من أصحابنا هذا المعنى، فقال: إنه لا يوجب نصب الإمام في حال ظهور الظلمة لأنهم ربما أنفوا عن طاعته فخشى أن يقتلوه فقيامه يؤدي إلى إثارة فتنة، وأما مع ظهور التناصف فيجوز نصبه لإظهار شعار الشريعة.
وحكي عن الأصم عكسه، وهو لا يوجب إمامة الإمام إلا عند ظهور التظالم بين الناس فإن لم يظهر لم يجب.
وأما النجدات فلا يوجبون نصبه في حال من الأحوال. ثم اختلف القائلون بوجوب الإمامة شرعاً، هل هي من المسائل القطعية أم من الاجتهادية؟. فذهب الأكثر وهو الحق إلى أنها قطعية إذ دليلها قطعي، وذهب الأشعرية وبعض المعتزلة إلى أنها اجتهادية بناءً منهم على أن أدلتها ظنية، هذا تحقيق الخلاف في ذلك، ولعل مولانا أبقاه الله تعالى أراد بالأمة بعضهم، وبالمعتزلة أكثرهم، لأن بعضهم لا يقول: إنها قطعية بل يقضي بأنها من المسائل الاجتهادية كما عرفت.(1/172)
وأما استشهاده أبقاه الله تعالى على كون مسائل الإمامة عند الأكثر من القطعيات، بكونهم ألحقوها بفن أصول الدين فهو صحيح لا عوج فيه، وقد ذكره الفقيه قاسم بن أحمد بن حميد المحلي رحمه الله تعالى، في تعليقه على الشرح، حيث قال:
أما اتصالها يعني الإمامة بباب أصول الدين جملة، فاعلم أولاً: أن بعضهم قد عدها من مسائل الاجتهاد، وأخرجها عن باب أصول الدين، وجعل كل مجتهد فيها مصيباً، والجمهور على خلاف ذلك، وأنها معدودة من مسائل أصول الدين، والأدلة عليها قطعية لا يدخلها الاجتهاد ولا الظن أصلاً.
قلت: ولعل ما حكاه مولانا عن بعض المتكلمين يعود إلى ذلك. قوله: مع أن الأليق بها فن الفقه إلى آخره.
قلنا: إنه وإن كان الأمر كذلك فلا حرج في ذكرها في فن الأصول، لذلك الغرض كما ذكرت فيه مسألة الشفاعة، ومسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمثل ذلك، والمشاحة في أمثال هذا ليس من همنا.
قال أبقاه الله تعالى: ولم أظفر من أدلة الأصحاب مع هذه الدعوى بما مقدماته يقينية، وقواعده التي تبتني عليها قوية، مع كثرة بحثي عن ذلك في كتب الأصول والفروع، وتطلبه من مصنفات المعقول والمسموع، فإن مسائل الإمامة متفرعة إلى فروع كثيرة كوجوب نصب الإمام، ووجوب اتباعه، ومعرفة شرائط الإمامة، ووجه اشتراط كل واحد منها، ووجه الاقتصار عليها، ومعرفة ما يحتاج إلى الإمام فيه، ووجه قصره عليه، وغير ذلك.
والأدلة القاطعة الشرعية ليست إلا الكتاب الصريح، والسنة المتواترة، والإجماع، والقياس القطعيين.(1/173)
وأما العقل فلا مجال له هنا على الصحيح، ولم يتضح لي ثبوت شيء من هذه الأدلة القاطعة في هذه المسائل ولا شيء منها.
أقول: لا وجه يتمسك به من أنكر كون مسائل الإمامة قطعية، إلا ما يدعيه من أنه لا دليل يقتضي ذلك، ونحن الآن نقيم البرهان بعون الله على صحة القطع بها حتى تظهر صحة ما ادعاه أصحابنا -رضي الله عنهم-.(1/174)
القول في أن أدلة مسألة الإمامة قطعية
فنقول: أما وجوب نصب الإمام، فالدليل عليه وجوه ثلاثة:
أحدها: إجماع الصحابة حيث فزعوا عقيب موت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-إلى نصب من يخلفه وبادروا إلى ذلك واختصموا فيه، وظهر التشاجر، وقال أبو بكر -رضي الله عنه-: لا بد لهذا الأمر ممن ينظمه ويقوم به، ولم ينازعه أحد في ذلك ولا علم أن أحداً منهم [قال] لا حاجة إلى الإمام، بل أمر كل منهم إلى نفسه، بل أجمعوا على مثل ما ذكر أبو بكر أنه لا بد من قائم تلجأ الأمة إليه، ولم ينازع في شدة الحاجة إليه منازع، علم ذلك ضرورة من حالهم حينئذ، ومن ثم اشتغلوا بطلب ذلك قبل مواراة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-في حفرته، ولم ينكر أحدُ منهم تقديم الاشتغال بذلك والاهتمام به، على الاشتغال بتجهيز رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-ومواراته، بل فزع كل واحد منهم إلى النظر فيمن يخلف رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-في تعليق الأمور به على حد تعليقها برسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-في حياته.
وأما اشتغال علي -عليه الصلاة والسلام- عن الحضرة معهم بتجهيز رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-فإنما هو لأحد أمرين:
1- إما لكونه الوصي له دون غيره فرأى أن ذلك متعين عليه دونهم.(1/175)