وأما إمامة أمير المؤمنين فأهل المذهب يتفقون على وجوب معرفتها، وأنها فرض محتوم، واختلفوا هل هي فرض عين، أو فرض كفاية، فالأكثر على الأول، ممن نص على ذلك الهادي والقاسم -عليهما السلام-، وفي كلام الهادي -عليه السلام-، ما يقضي بأن الجهل بذلك فسق.
والحجة لأهل هذا القول إجماع العترة، والأقل على الثاني وهو الأرجح عندي والأولى، وللأصحاب مبالغة في هذه المسألة حتى أنهم عموا بوجوب ما ذكره العلماء والعوام، واختاروا رقم ذلك في الوصايا، وضم الشهادة به إلى الشهادتين، ومن المعلوم أن مثل ذلك لا يدخل في إمكان العوام، ولا يجدون إلى العلم به سبيلاً، وأنه في حقهم كتكليف ما لا يطاق، وليس معهم فيه إلا التقليد المحض، وقد ذهب الفضل بن شروين أنها إنما تجب على العلماء دون العوام، وهو أعدل الأقوال، واحتج بأن معرفة إمامة أمير المؤمنين علي -عليه السلام- متلقاة من جهة معرفة اللغة فلا يعرف وجوبها إلا من له غوص في اللغة.
وأما رقم ذلك وفعله في الوصايا فمن قبيل الغلو فليس كل مسألة يجب العمل بها مما يحق لها مثل ذلك، وليس له من الفوائد إلا معرفة كون الموصي زيدي المذهب، وليس كل موص يفتقر إلى التعريف بمذهبه، ولا يحتاج إلى ذلك منه وكل من يعرفه يعرف مذهبه إن كان ذلك إلى حجة.
وأما الحسنان -عليهما السلام- فالأكثر على أن حكمهما حكم أبيهما، ومن أهل المذهب من لا يوجب معرفة إمامتهما.
قال القاضي الدواري: لم يذكر وجوب معرفة إمامة الحسنين -عليهما السلام- جماعة من أئمتنا، منهم السيد المؤيد بالله، وصاحب الكافي، والأمير الحسين.(1/161)
أما صاحب (الكافي) فصرَّح بأن العلم بإمامتهما غير داخل في أصول الدين، قال ومن لم يعرف إمامتهما لم يفسق عند جميع العلماء.
وأما المؤيد بالله، والأمير الحسين فلم يذكرا الوجوب، ولا نفياه. وللهادي -عليه السلام- وولديه ما يقضي بأن معرفة إمامتهما واجبة، وسوى المهدي بين إمامة الثلاثة في وجوب المعرفة لها، وقال: لا خلاف في كون معرفة إمامتهم كلهم فرض، لأنها منصوصة، ومعرفة معاني نصوص الكتاب والسنة واجبة، ولم يتعرض الإمام يحيى في (الإنتصار) لوجوب معرفة إمامتهما، وإنما قصر الكلام على إمامته -عليه السلام-.
وحكى إجماع العترة والشيعة على وجوب معرفة إمامته، وخطأ من لم يعرفها، لأن العلم بها من أصول الدين لأن كل من لا يعرفها على التفصيل لا يمكنه معرفة إمام زمانه، لأن إمامة غيره -عليه السلام- متفرعة على معرفة إمامته، وإن اختلفت الطريق فلا يكون من بعده إماماً إلا إذا حصل على مثل أوصافه.
قال الإمام يحيى بن حمزة: ورأي الأكثر من أئمة العترة، والأكثر من المعتزلة، أن الإخلال بمعرفة إمامته يكون فسقاً إلا ما يحكى عن المؤيد بالله فإنه لم يقطع بفسقه، ثم رجع إلى كونه مخطئاً، قال الإمام يحيى: والمختار الذي يجب عليه التعويل ما قاله المؤيد: وهو الحكم عليه بالخطأ دون الفسق لأنك إنما تهدم عمله بالأدلة القاطعة الشرعية وهي منفية هنا.(1/162)
وقال المهدي -عليه السلام-: إن الجاهل لها لا يفسق، ولا يخطأ مع قيام غيره بذلك، وأما المجوز للإخلال بمعرفتها على كل وجه فإنه مخطئ ولا قطع بفسقه. قوله في السؤال: وهل يجب اعتقاد إمامتهم، وحملهم على السلامة من دون معرفة جمعهم للشرائط؟.
جوابه أنه لا يجب الاعتقاد المذكور بل لا يجوز إلا عن نظر واستدلال وتحقيق، فإن الاعتقاد الذي ليس على هذه الصفة يجوز كونه اعتقاد جهل، والجهل قبح، والإقدام على ما لم يؤمن قبحه كالإقدام على القبيح، فلا يتوجه ذلك الاعتقاد إلا مع تواتر الكمال وحصول شرائط الإمامة، والسيرة المرضية، ومهما لم يحصل ذلك، فلا ينبغي أن يعتقد ذلك، وكذلك فلا ينبغي أن يعتقد فيهم الخطأ ولا النقصان، ولا عدم الكمال، إذ لا طريق له إليه، ولا بأس بالحمل على السلامة وهو ألا يظن فيهم أنهم ترشحوا لهذا الأمر مع عدم كمالهم فيه بل يتوجه أن يظن فيهم الخير، وللعوام في ذلك تقليد العلماء.
هذا وأن من الأئمة من هو مذكور، وحاله في الفضل والكمال وجمع محاسن الخلال مشهور، فلا يخفى على أحد صحة إمامته وكماله وفضله، وإحرازه للشرائط، وإحاطته بالأوصاف الحسنة لكون سيرته مرضية.(1/163)
ومنهم -عليهم السلام- من أمره خاف عن بعض المميزين بل كثير من دعاة أهل البيت يخفي أمره على بعض المبرزين فقد كان منهم في جهة الأندلس وغيرها، من لم تبلغ دعوته ولا تَسَيِّر سيرته، قال: وما يكلف به في حق المتعارضين السابقين، مع تواليهم وتعاديهم؟ أقول: أول ما نشأت المعارضة فيما نعلم زمن الهادي، والناصر –عليهما السلام-، وكانا متباعدي الأقطار، ومتبايني الديار والمزار، وحالهما في الفضل والكمال لا ينكر بحال، وحبذا ما كان بصفة تعارضهما، فلا شك أنهما معاً مرضيان وإمامتهما معاً في القوة والصحة ظاهرة الثبات، وما جرى من المتعارضين على هذه الكيفية فلا إشكال فيه، ولا يفتقر فيه إلى تنبيه.
وأما حيث تقارب المتعارضان، وتنازعا وتحاربا، فلا يتصور أن يكونا محقين معاً بل أكثر ما يتهيأ أن يكون أحدهما فقط محقاً، ويكون الآخر باغياً عليه، وخارجاً عن ولاية الله تعالى إلى عداوته فلا إمامة مع البغي.
وإما (حيث) تقاربت دارهما، ولم يتشاجرا ولا تحاربا، وكان كل واحد منهما حسن المجاملة والمعاملة للأخر وهما متواليان غير متعادين، فالذي تقتضيه القواعد أن الإمامة (ليست) إلا لأحدهما، والأخر ليس بإمام، وإنما نتولاه كما تولاه الإمام المعارض له، ومن الحق في عدم المعارضة ثابت له، هذا على سبيل الإجمال.
وأما التفصيل فهو أنه إن ثبت لنا طريق إلى كون أحد المتعاديين بعينه هو الإمام، وكون الأخر بصفة الباغي عليه، وثبتت لنا طريق إلى أن أحد المتواليين بعينه هو كامل الشرائط، صحيح الدعوة، ثابت الإمامة.(1/164)
وأنه الفائز بذلك والحائز له دون صاحبه دنَّا بذلك واعتقدناه في الصورتين معاً، فإن لم تستقم تلك القاعدة ففرضنا في المتواليين المعروفين بحسن الصفات والأحوال توليهم معاً، والترحم عليهم، وحسن الظن بهم، وأن نقول في المتعاديين: { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[البقرة: 141].
قال: ومن ليس بإمام عند أهل البيت كعمر بن عبد العزيز، ما حكمه؟ أقول: حكم عمر بن عبد العزيز، ومن على صفته ممن حسنت سيرته وسريرته، ولم يختل فيه إلا شرط المنصب الفاطمي عند أصحابنا أنه ليس بإمام، وإنما هو سلطان عادل، وأنه مخطئ بترشحه لهذا الأمر، ويؤل أمره إلى ما عليه الخلفاء المتقدمون لأمير المؤمنين، وكلام أهل البيت عليهم السلام فيهم معروف متناقل فمنهم المبالغ في التأثم والتخطية، ومنهم السالك سبيل التولي والترضية، فما عومل به عمر الأكبر ينبغي أن يعامل به عمر الأصغر فليس بناقص عنهم في حسن السيرة والسريرة، في العدل وإن تأخر بل قد قضي له لمزية جلية غير خفية، وهو أنه سلك لهذا السبيل في العدل بعد انطماسه واندراسه، وخراب أساسه، وتقادم العهد بمثله، وكون أهل زمانه لا يعترضونه في شأنه.(1/165)