والمسألة منصوصة، ولو قيل بذلك لكان فيه وهن على الإمام، وتضعيف أمره، والجهاد لم يشرع إلا لمن عصى الإمام، ولم يطعه فيما أمر به، ولو قصرنا الإمام عن إكراه النافي لإمامته على ما يجب عليه الأداء إلى (بطلان) أمره، فلن يمتنع عليه الأمن لا يُثبت إمامته باطناً وظاهرا، فعرفت أن القول بذلك يؤدي إلى ارتفاع ما لا بد للإمام منه، من مجاهدة العاصين له المهملين لحقه الزواين لحقوق الله تعالى عنه.
وهذا ما لا قائل به، وحال المنكر لإمامة الإمام في عدم صحة الاعتذار بذلك فيما عليه من حقوقه حكم منكر الصانع فيما هو مفروض من صلاة وصيام.
فكما أنه لا (يعذر) فيها وإن كان اعتقاده منافيها، فكذلك هاهنا. قال: وما حكم المتوقف إذا تمادى به الزمان، وطال توقفه، وعرف الإمام صدقه، ورصانة دينه، إن قلنا: يعذره فكيف إذا كانت صفة الكل، أو الأكثر، فإنه يؤدي إلى بطلان أمر الإمام، وإن لا يعذره فكيف وهو لم يألُ جهداً في الاستبراء لدينه، وتحصيل يقينه؟، أقول: قد تقدم ذكر التوقف وحكمه، وأتينا فيه بما لا مزيد عليه، والتحقيق أنه لا وجه لإطالة التوقف ولا مقتضي له، فإن مسألة الإمامة وشروطها واضحة، جلية غير غامضة، ولا حفية فما في إطالة الخبرة ويعتبر(تعسير) الأمر وهو هون على الإمام، ولا معنى للتوقف إلا في حق رجلين، رجل منتزح عن الإمام فاضطربت عنده الروايات في كماله وعدمه، وإجابة الناس له وعدمها، وكمال الشرائط فيه وانتقاصها، فشأنه التوقف حتى يهيئ الله تعالى له البلوغ إلى عند الإمام، وفهم الصحيح مما بلغه وخلافه، أو حتى يتواتر له الصحيح من ذلك ويضمحل الفاسد.(1/156)


ورجل بلغ إلى الإمام ليختبره، ولم يمضِ من المدة ما يحصل فيه الاختبار الحقيقي، والاطلاع على إحراز النصاب المعتبر من كل شرط، وأما ما عدا ذلك مما هو إلا من قبيل السخافة والجهالة، أو من قبيل اتباع الهوى والغرض، وعروض السقم للبصيرة والمرضى، فكم من متوقف يطول توقفه، ويستمر تعسفه، ولا حائل (هل)له على ذلك إلا ما يعرض له في كل واحد من طرفي الإثبات والنفي من الشوائب الدنيوية، والأحوال التي لا تكون عنده مرضية، وما هذا دين الله تعالى، ولا بين به الحق والباطل من واسطة، ولا بأس بأن يباحث الإمام المتوقِّفَ، ويسأله عن سبب توقفه، إن كان شك في شيء من الشروط قرر عليه حصوله وثبوته.
وإن كان لشيئٍ رآه في أمر السيرة قرر عنده وجهه، والحامل عليه وعدم الخطأ فيه، وإن كان لسبق داع قيل له: هل الأول عندك ثابت الإمامة فلا معنى لتوقفك؟، ولا (…………………..ص55) فتقدم دعوته كلا يقدم بل قيام من ليس بصالح للإمامة، مما ينبغي أن يكون داعياً إلى قيام الكامل، ومؤكداً للوجوب في حقه، وإن كنت متوقفاً في الأول فكذلك توقفت في الثاني، فهذه حيرة مركبة على حيرة وجهالة منْظَمَّةٌ إلى جهالة، والحاصل أن التوقف إذا جاوز القيد المعتاد والمحتاج فصاحبه ضال، ولكن ضلالته دون ضلالة الثاني، مع فرض صحة الإمامة ودون ضلالة المثبت مع فرض بطلانها.(1/157)


قوله: فكيف يعذره وهو لا يألو جهداً إلى أخره؟، قلنا: فيلزمك أن تعذر النافي إذا كان نفيه له إمامته تحرياً في أمر دينه إذ لا فرق، وأن تعذر المتوقف في نبوة النبي –صلى الله عليه وآله وسلم-بل المتوقف في إثبات الصانع، إذا جهدا في تحصيل المعرفة، ولكن ما حصلت ويلزم تصحيح مذهب أهل الحيرة والتكافؤ، والله ولي التوفيق.
قال: وما تكليف أهل الزمان في حق الأئمة المتقدمين، وهل يجب معرفة إمامتهم جميعاً، بمعرفة جمعهم الشرائط، كما يجب في حق إمام الزمان بذلك فيما يأمر به، أم لا يجب شيء من ذلك؟، وهل يجب اعتقاد إمامتهم وحملهم على السلامة من دون معرفة جمعهم للشرائط؟ أقول الأئمة السابقين، أولهم أمير المؤمنين، وسيد الوصيين علي بن أبي طالب -عليه السلام-، ويلحق به ولداه الحسنان -عليهما السلام-، وهؤلاء هم الدرجة العلياء.
والطبقة الأولى: وهم المعصومون والمنصوص عليهم.
والطبقة الثانية: مَنْ بعدهم إلى الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين
-عليه السلام-.
الطبقة الثالثة: من بعده إلى المنصور بالله عبد الله بن حمزة
-عليه السلام-.(1/158)


والطبقة الرابعة: من بعده إلى زماننا هذا، هكذا ذكره والدنا الإمام الهادي إلى دين الله تعالى علي بن المؤيد بالله -عليه السلام- في رسالة له غراء، ومقالة رائعة عذراء، ذكر فيها طبقات الأئمة ودرجاتهم، ونزلها على هذا التنزيل، قال في الطبقة الرابعة: هي من الإمام أحمد بن الحسين المهدي إلى أن ألجأت الحال فصار الأمر عندي، واستثنى من هذه الطبقة الرابعة الإمام يحيى بن حمزة، وقال: هو جدير بأن يعد أمة وحده، وله في هذه الرسالة ألفاظ رشيقة، ومعان دقيقة، وكان الباعث له عليها أن السيد العلامة الهادي بن إبراهيم بن علي المرتضى، وجه إليه رسالة بالغ في الثناء عليه فيها، وتفضيله على كثير ممن قبله أولها:
الحمد لله عليك من إمام أمة، عده عليه السلام،على المسلمين نعمة، فأنشأ الإمام -عليه السلام-.
هذه الرسالة وأظهر التواضع فيها، والحط من أمره حتى استشهد بقول بعضهم:
وابن اللبون إذا ما لز في قرن .... لم يستطع صولة البزل القناعيس
وأجاد معاني عالية وأطاب وأتى بالألفاظ البليغة، والمعاني العذاب، بما يروق الألباب، ثم نعود إلى ما هو المقصود فنقول: أما من بعد علي -عليه السلام- من الأئمة غير إمام الزمان، فلا قائل بأنه يجب معرفة إمامتهم، ولا البحث عنها، ولا أنه يتعلق بنا في شأنهم تكليف لا اعتقاد إمامه، ولا عمل يتبع ذلك.
قال بعض أصحابنا: لأنه لا تكليف علينا علمي ولا عملي، في معرفة ذلك، وإن كان العلم بذلك ممكناً بأن يتواتر الخبر إلينا بمثل ذلك لكنه ولو تواتر فإنه حينئذ غير واجب لأنه علم ضروري.(1/159)


وذكر الدواري في تعليقه على شرح الأصول: أن الأظهر من كلام الزيدية، وغيرهم أنها تجب معرفة إمامة زيد بن علي-عليهما السلام-، وعلل ذلك بأنه مجمع على إمامته، وجمعه للشرائط يحتاج إلى معرفتها، والعلم بذلك ليكون طريقاً إلى معرفة إمام الزمان وأوصافه، أو الاعتبار في الشرائط التي تشترط في الإمام، أو في أكثرها بإجماع الأمة أو أهل البيت، ولا إجماع معلوم إلا فيه، فإن الأمة والعترة فيما بعد زمنه كثر انتشارهما فقلما يعلم لهما إجماع.
قلت: وهذا الكلام فيه نظر(وما هو) إلا كلام لا صحة له لأن إمامة زيد بن علي كإمامة غيره، بل غيره من الأئمة السابقين (من) كانت مدة قيامه أطول، وأثاره في باب الدين أكمل، ولا عمل يتعلق بمعرفة إمامته، ولا تكليف إليها، وإن كان -عليه السلام- من شموس الأئمة وأقمارهم، وهو مؤسس قواعدهم المرضية، وموضح أثارهم، والتعليل المذكور عليل، فإن الأدلة على وجه اشتراط شروط الإمامة قائمة، وهي المرجوع إليه في اشتراطها، وليس ذلك مستند إلى معرفة إمامة زيد بن علي -عليه السلام-، فإن إمامته إنما عرفت لمعرفة إحرازه للشرائط وجمعه لها، لا أنَّ معرفة شروط الإمامة تؤخذ من معرفة إمامته، ولا يجب أن يكون كل إمام أوصافه كأوصافه، وكماله فيها ككماله، فإن زيداً -عليه السلام- زاد على قدر ما يشترط فيها زيادة واسعة، ولو اشترط أن يكون كل إمام على صفته لأدى إلى إبطال إمامة كثير من الأئمة فهذا الكلام لا وجه له.(1/160)

32 / 60
ع
En
A+
A-