ومن طريق الأئمة ومن غيرها مع أن قرائهم والممييزين منهم يقرءون في كتب الهداية أنها أشد حرمة من الميتة، وأنهم يدرسون ذلك ويدارسون فيه، ويسومون الإمام أن يعطيهم منها، ويوفر حضهم فيها، ولا يكاد يخطر ببالهم أن تحريم ذلك عليهم من مسائل الإجماع، وأنه مما لا يتهيأ فيه وجه مُساغ، ولا أن ذلك يصادم شرع جدهم الذين نالوا اسم الشرف ومعناه لأجله، وحازوا رتبة من الرئاسة والجلالة لشرفه وفضله.
فائدة: ومما يغلط فيه على الإمام استنكار كثير من المميزين، لما يصرفه الإمام إلى المؤلفين، واستنكاره واستهجانه لأجله، واعتقاد التفريط فيه، وقد يقول قائلهم: كانت عطية فلان الظالم أو الفاجر، يعني جماعة من الفقراء الفضلاء الأخيار، الذي لا يساوي شسع نعل أحدهم، وهذا من الجهل بعظم موقع المصلحة الحاصلة من التأليف في الدين، وكونها أعظم موقعاً من المصلحة الحاصلة لمواساة الفقراء والمساكين، فإن مواساتهم والمصلحة فيهم مقصورة عليهم لا تتعداهم، وأما المؤلف ففي إعطاءه مصالح يتم نفعها ويعظم موقعها، فقد تكون المصلحة فيه قوة شوكة الحق، أو حفظ بيضة الإسلام، أو سد ثغر، أو دفع شر كان على المسلمين وجانب الدين، أو توصل إلى إقامة معروف ونهي منكر، وغير ذلك من أنواع المصالح الدينية، والمقاصد المرضية، وإنما يتوجه ما ذكروه لو أنه أعطاه لما يرجع إليه، ولكونه على الذي هو عليه، ولو رام الإمام أن يجري أمره على قاعدة وأن تتم منه قيام الفائدة، ويده مقبوضة عن المؤلفين، ومواساته مقصورة على الفقراء والمساكين، لرام شططاً، ولتقاصرت عنه فسيحات الخطأ، فإن أمر الإمام لا(1/146)
يستقيم إلا بالتأليف على أنواعه، ولا يتم ولا ينتظم أبداً إلا مع كثرته واتساعه، هذا والإمام خليفة رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم-وليس له إلا الاقتفاء لآثاره، والاهتداء بنوره وقد ظهر واشتهر ما اتفق وصدر من سيد البشر من إعطاء المؤلفين العطايا الواسعة، وإيثارهم على أهل المناصرة والمشايعة، كما فعل يوم حنين فإنه أعطى جماعة من المؤلفين كل واحد منهم مائة من الإبل، وخصهم بذلك دون الأخيار من المهاجرين والأنصار، ولم يؤثر أنه أعطى فقيراً ذلك اليوم للافتقار من ذلك عشر المعشار، ولعل المعطين أولئك لا يساوون كلهم ولا يزنون عند الله تعالى أثار أخمص واحد من السابقين الأولين، وسادة الأنصار والمهاجرين، وكفى بذلك دليلاً واضحاً وضوح النهار، ولكن من جهل الأمور خاض فيها بغير اعتبار.
ومن اعتلق به هوى النفس جانب مقتضى البصر والاستبصار، ومما يقضي منه العجب أن هذا المعنى المشار إليه قد يرتكز في ذهن كثير من أرباب الزكاة، الذين لهم مسكة من التمييز فترى منهم من يسوم الإمام إلى صرف ما أعطاه من واجبه إلا إلى الفقراء، ومنهم من لا يثق به في ذلك فيشترط في واجبه أن يوجه للفقراء من عنده، ويكون هو المسلم إليه ذلك من يده، وغفلوا عن كون الإمام أتقى الناس في الناس وأعرفهم بطرق الخلاص.(1/147)
وأنه لو لم يكن الفضيلة إلا في الصرف إلى الفقراء لكان ذلك ممكناً بغير واسطة الإمام، فكان مقتضاه أن لا يشرع التسليم إليه ولا يجعل مدار الخلاص عليه، ولو كان المقصود هو الصرف إلى الفقراء وهو الغرض المهم، لما كان تسليم الحقوق الواجبة إلا إلى الإمام هو الأفضل والأكثر ثواباً والأوفر التسليم إلى الفقير ممكن بغير ذلك مما يقتضي الأفضلية.
ولو تأمل من أشير إليه لفرق وتيقن أن صرف الزكاة في جهاد ظالم، أو كافر، أو إزالة منكر، أو تأليف رجل يقع بتأليفه قوة لشوكة الحق، وتوصل إلى نعش الإسلام من أعظم القرب وأجلها، وأنه لا يحل نفع الفقير أو فقيرين في محلها، وأن حصول ذلك يثبت تلك الزكاة، وما سلم منها وأعطاه مما ينبغي أن تقر به عينه وتطيب به نفسه، وأنه بذلك يكون مشاركاً في الجهاد ونائلاً به نصيبا يستجاد.(1/148)
وهذا (حين الفراغ) من إملاء ما أردنا ذكره في هذا المختصر من مسائل الإمامة الخاصة منها والعامة، حسب ما أشار إليه السائل وعول عليه، وتركنا منها ما لم تشر أسئلته إلى ذكره، وما لا خفي منها في أمره، ولنختم الكلام بذكر أطراف من ذلك السؤال، وألفاظ مما أورد من المباحثة الحسنة، والمذاكرة المستحسنة، وأجاد فيها المقال قال: هل مسألة الإمام قطعية أو ظنية؟ ثم ما القطعي من شروطها وتفاريعها ومستتبعاتها؟ أقول: قد ذكرنا في هذا الإملاء المبارك أدلة مسألة الإمامة أصولها وفروعها، واستقصينا ما يعول عليه من مآخذها، ولم نجد ما هو فوق ذلك في شيء من مظانه بعد البحث المستوفي عن ذلك، وأشرنا إلى ما سبق منا في المراسلة الدائرة بيننا وبين حي الفقيه الأفضل جمال الدين علي بن محمد البكري قدس الله روحه ونور ضريحه، فليتأمل السائل ما ذكرناه من الأدلة، وما رد عليها، فهو بحمد الله تعالى لا يعزب عنه ما هو قطعي منها، ينتهي إلى العلم اليقين، وما ليس كذلك فالاتفاق على الأدلة تغني عن ذكر حكمها في إفادة القطع وعدمه، إذ قد صارت غير مجهولة، بل معروفة وموضحة للواقف عليها مكشوفة، وغير بعيد أن يختلف حال الناظرين في الأدلة، فمنهم من توصله إلى العلم، ومنهم من لا تبلغ به إليه، بل إلى درجة الظن كما أن أنظارهم تختلف.(1/149)
فمنهم من ينظر في ذلك فتوصله للمطلوب، ومنهم من ينظر فيه فلا توصله إلا إلى عكسه، كاختلاف أنظار العقلاء في العالم فمنهم من أوصله نظره فيه إلى إثبات الصانع الجليل، ومنهم من أفضى نظره إلى النفي و التعطيل، فمن ادعى من علمائنا رحمهم الله تعالى أن نظره في مسائل الإمامة وشروطها ولواحقها، أفضى به إلى برد اليقين، وطمأنينة النفس صدقناه، وعلى أحسن المحامل حملناه.
ومن لم يدع ذلك ولا يعترف به، فهو أخص بأحوال نفسه، وحكمه في تكاليف الإمامة حكم الأول، فيما يعتمد من أمورها وعليه يعول.
وقد شاع في كثير من النواحي والبقاع أنا نقول: بأنها اجتهادية، ويكاد يشنع علينا بذلك من في قلبه مرض، أو له في التشنيع غرض، وتشنيعهم من وجهين:
أحدهما: اعتقاده أن هذا خلف من العدل فيما نحن عليه من الدعاء إلى الله تعالى، وخطل من الرأي، وزلل في الاعتقاد.
الثاني: اعتقادهم أن هذا ينافي ما نحن فيه وعليه من الدعاء إلى الله تعالى وإلزام الناس الطاعة، وما نحن عليه من الإيراد والإصدار، والقيام بهذه التكاليف الكبار.
ومن هذا أو نحوه يقضي العجب، ويَعْرفُ منافاته كثير من الناس لقانون الأدب.
أما أولاً: فما نعلم أنا صرحنا بهذه العقيدة، ولا أتينا فيها بعبارة لها مفيدة، ولا زدنا على أن ناقشنا في قطعية الأدلة، ولو زدنا عليها أسئلة مشكلة قد سبقنا الأصحاب إلى إيرادها، ونشر إيرادها، وإن كنا زدنا في تدقيق النظر فيها، ونَقَّرنا عن غوامض معانيها، ومن مثل هذا لا تؤخذ المذاهب.(1/150)