واعلم أن توجه مواساة فقراء كل جهة ليس إلا مع قبض واجباتها كلها، والحقوق التي فيها بأجمعها، وإذا لم يقبض الإمام من قطر شيئاً ولا أذعن له أهله ولا تمكن من قهرهم على تسليم ما عليهم من ذلك فلا حق لفقرائه عليه ولا شيء لهم يتوجه إليه، ومن المعلوم قطعاً أنه لا يجب على القائم في اليمن مثلاً أن يتعهد فقراء مصر والعراق والشام ولا يعد ذلك من تكليفه، وكذلك ما كان بذلك الحكم وعدم مصير واحد إليه، وإذا كان من الجهات ما لا يصير إلى الإمام من واجباته والحقوق التي على أهله إلا البعض كالنصف، أو الثلث، أو الربع، على ما هو الغالب من حال الجهات الإمامية بالديار اليمنية فإن عادة أهلها غالباً يسلم البعض من واجباتهم إلى الإمام وترك البعض بأيديهم، ويقولون فيما يزوونه على الإمام هو نصيب الفقراء، ويسمونها الإمام نصيب الجهاد فلا حق لفقراء هذه الجهات المشار إليها عند الإمام، ولا لهم علة يعتلون بها عليه، إذا لم يقبض لهم شيئاً وحصتهم من الواجبات عند أربابها وبأيديهم والطلب فيها يتوجه إليهم وسواء كان ترك حصة الفقراء بإذن الإمام ورضى منه أو لا يرضاه وبغير إذن منه.
أما حيث لم يحصل له منهم تسليم الواجب كله ولا تمكن من قهرهم فظاهر، وأما حيث كان ذلك بإذن منه ورضا ولو شاء لقبض الكل فلأن قبض نصيب الفقراء من أرباب الواجبات ليس بواجب عليه، لا أنه حق عليه والواجب لازم له، فإنه لو لم يطالب الناس بتسليم الحقوق، ولا يلزمهم ذلك لم يعد مخلاً بواجب، ولهذا حكم الفقهاء بأن التخلية إلى المصدق كافية لا إلى الإمام ما ذاك إلا لأن الإمام لا يجب عليه القبض.(1/141)
وأما المصدق فيجب عليه وذلك لإلزام الإمام إياه، واستعماله عليه يكون بصفة الأمين، لا يقال: ومن أين أن حصة الفقراء والمساكين يتعين فيما بقي بيد رب الزكاة والحقوق، فإن حصتهم في الزكاة مشاعة، فإذا قبض الإمام بعضاً من الزكوات ونحوها، كان لهم حصتهم منه حيث قبض الزكاة كلها وإلى أربابها حيث تولوا صرفها وتفريقها، فإذا قال رب الزكاة للإمام: هذا إليك، وهو حصة الجهاد ونحوه من المصارف، وهذا إلى حصة الفقراء والمساكين حيث كان ربعاً أو حصتهما، وحصة الغارم وابن السبيل مثلاً حيث كان نصفاً، وقبل ذلك الإمام منه، وأقره عليه فلا شيء في يد الإمام للفقير حينئذ، ولا حق يتعلق به له، ولا يلزم أن يكون قسمة الزكاة (بين مصارفها) كقسمة الأشياء المملوكة بين مالكيها، فيشترط الحضور والتراضي، أو مصير كل نصيب إلى مستحقه، فيما قسمته إفراز ألا(ترى) أن بعض أرباب الزكاة لو صرفوا (في) ابن السبيل حصته من واجبهم أو إلى الغارم مثلاً حصته، ولم يسلموا للفقير والمسكين شيئاً لم يكن مطالبة أولئك المصروف إليهم وأن يقولوا حصتنا مشاع فسلموا لنا حصتنا مما صار إليكم، فلم يرض بما ذكروه من بقاء حصتنا بأيديهم، هذا مالا يقول به أحد، ولا يتصور ولا يتقرر، ولو كان المصارف كالمالكين لما جاز أن يختص بعض أهل المصارف دون بعض، وفقير دون سائر الفقراء، والأمر فيما ذكرناه ظاهر.(1/142)
وأما فرض أن يد الإمام انبسطت وتمكن من قهر أهل جهة، فاستوفى منها الحقوق كلها واستقصى عليها، فلا كلام أنه يجب عليه تعهد من فيها من الضعفاء الذين حققتهم، كما ذكره المهدي -عليه السلام- أحمد بن الحسين، وهم الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا.
وأنه يتوجه عليه أن يواسيهم كل منهم على حسب حاله وحسب ما يراه، وأما فقراءها المتمكنون من التكسب والضرب في الأرض وحق الإمام واجب عليهم، ولازم إياهم لتمكنهم من القيام به، فهؤلاء شأنهم أنهم إن قاموا بحق الإمام وما كلفوا به من أجله، فمواساته إياهم لازمة له، وقيامه بحقهم واجب عليه، ويحسن أن يصرف إلى الفقراء والمساكين من أهل تلك الجهة قدر الربع من واجباتهم، لأنه أحوط، وإن لم يلزم مراعاة هذا التقدير بل له الزيادة عليه، والنقص منه، وهذا حيث كان في الأمر سعة وأحواله مستقيمة، ولا يلحق بما ذكره خلل، وباب الجهاد غير موسع، ولا يستوعب بحيث لا خلل كان ولا ضرر ولا إجحاف.(1/143)
دقيقة: اعلم أن الأصحاب -رحمهم الله تعالى- تركوا تقييد ما يجب على الإمام من تلك الأمور بما أشرنا إليه ويتهيأ عليه، إلا أنهم في الأغلب يذكرون ما هو عليه بعد ذكر ما هو له، فبيَّنوا وجوب ما يجب عليه على تقدير حصول ما قدموه مما يجب له، ولا شك أنه إذا فرض قيام الأمة بما يجب عليهم له، ومن ذلك تسليم حقوق الله تعالى مع طاعتهم له، والجهاد بين يديه فإن تعهد الضعفاء والفقراء ومواساتهم لفقرهم ولقيامهم بحقه، أمر لازم له مع كونه موكولاً إليه النظر في الإكثار والإقلال، والتسوية والتفضيل، حسب ما يوفيه نظر الإمام إلى الصلاح، ومستحضر النية الصالحة، والقصد الحسن، مجانباً في ذلك الهوى والغرض، ولو سئل من ذكر تلك الظواهر فيما يجب على الإمام، هل ذلك يجب عليه مع خلو يده عن بيوت الأموال واستيفاء الحقوق؟ لقالوا: لا.
وهل يجب عليه مع استيعاب الجهاد وأمور الإمامة التي لا بد منها، ولا يستقيم الأمر إلا معها لما في يده؟ لقالوا: لا.
وهل يجب عليه ذلك لفقراء قطر لا يصير إليه (شيئ) من واجباته؟: لقالوا: لا. وهل يجب عليه للمعرضين عنه الرافضين لما يجب له، التاركين للجهاد معه، المشتغلين بخاصة أمرهم دونه؟. لقالوا: لا. ولكنه قد (قل) الناقل لهذه المعاني، وعدم البناء على قوىِّ المباني، فأما أهل الجهل والبله، وعدم التمييز وهم الجم الغفير، فلا يستغرب ذلك منهم، فإن الجهل داء، والجاهلون لأهل العلم أعداء.
وأما أهل التمييز والمعرفة فهم لا يجهلون ما ذكرناه، ولا ينكرون ما عرفناه، ولكن غفلوا عن ذلك، وصمم آذانها، والله ولي التوفيق.(1/144)
وقد جرت مراجعة ومناظره في هذه المعاني في سنة ثلاث وثمانين وثمان مائة سنة، بيننا وبين بعض علمائنا، ونحن حينئذ بطويلة بني تاج الدين، ووجدناه لا يخطر بباله شيء مما قدرناه مع جودة علمه، ووفور فهمه، لكن لم نزل نقرر ذلك لديه، حتى عرفه واعترف به ورجع إليه، وحضر حينئذ تلك المراجعة عين علماء الزمن، ودرة تاج الأخيار بديار اليمن، فوجدناه محيطاً بما ذكرناه فتولى بعض المناظرة، وكانت له على ما قصدنا تقريره ظاهرة.
تنبيه: قد (مر) ما أوضحناه ورجحناه، وكشفنا الغطاء عنه، في شأن ما يتوجه على الإمام لفقراء الأنام، والهاشميون في ذلك أقل حقاً من غيرهم، وليس يسوغ لفقرائهم ما يسوغ للفقراء من غيرهم، فأكثر حقوق الله تعالى لا علقة لهم بها، و لا مدخل لهم فيها، والحقوق التي تسوغ لهم قليلة، ونظر الناس إلى المخلص منها أقل، ومع ذلك فلجاج كثير من الهاشميين في هذا المعنى على الإمام أشد وإلحافهم فيه أكثر وأجد، ومن البدع الشنيعة ما صار عليه كثير منهم من التكالب على الزكاة، والتناول منها على الوجه الذي لا يرضى به الله، وتجاريهم على الاستقطاع منها وأكلها، والانتفاع بها من غير حلها، وتنزيل أنفسهم منزله فقراء سائر الناس، والتوصل إلى أخذها بكل وجه ممكن سراً و جهراً و طوعاً وكرها وقسرا.(1/145)