تنبيه وإرشاد: وينبغي أن يتوجه النظر المستجاد، ومسائلة (إلى) جهابذة النقاد. اعلم أنه كثير ما يغلط على الإمام في أمر الفقراء والمساكين، ويشيع ذلك بين الناس اعتقاد جهل، وهو أنه يلزمه النظر في أرزاقهم وكفايتهم، وإجابة سائليهم من غير التفات إلى حال الإمام ولا إلى حال المأموم ولا ذكر شرط في ذلك ولا قيد من القيود، ولقد رأينا ذلك وسمعنا ما يقضي منه العجب بحيث أنه قد يتظلم كثير من الفقراء تظلماً كثيراً من الإمام كتظلم المنهوب من الناهب، والمغصوب حقه من الغاصب، وقد يتصور بعضهم بصورة الغريم المطالب، ولهم في ذلك فنون ومذاهب، وقد ينتصب بعضهم لوعظ الإمام ويخوفه الوقوف بين يدي الله تعالى يوم الحشر والقيام.
وقد يزعم بعضهم أن الذي تهلكه المجاعة في السنة الشهباء، ولم يتداركه الإمام يصيره بمنزلة قاتل العمد وغير هذا، وغيره من فنون الجهالة من أنواع الضلالة، والذي جرءاهم على ذلك ما يقفون عليه في الكتب المتدارسة المتداولة، من ذكر ما يوهم ما فأهوابه(كاللمع) و(التذكرة) وغيرهما، فقد ذكر في (اللمع): إن الإمام يغنيهم عما يحتاجونه أو بعضه بحسب رأيه، قال بعض شارحي اللمع فيه روايتان بالغين المعجمة من الغناء وبالعين المهملة من الإعانة.
وقال في (التذكرة): ويفضل الضعفاء والأرامل والمساكين، ويغنيهم عن مسألة غيره من ذوي السعة، حيث وفي كلام (التذكرة) إشارة إلى تفسير ذلك اللفظ الذي في (اللمع).(1/136)
وقال في (الأزهار) وشرحه (الغيث): وتعهد الضعفاء فيما يحتاجون إليه من إعطاء أو إنصاف من ظالم، والمراد بهم من لا يتصل به من النساء والصبيان والمرضى والمساكين.
قال المهدي -عليه السلام-: ويكفيه من تعهدهم أن يوصي نائب كل جهة في تعهد مساكينها ومواساتهم كلُ بقدر حاله، فلما وقف من ليس له تحقيق على ما ذكر أخذ بظاهره، وحملهم الشغف بالإعطاء والتحامل على الأئمة بما يصير إليهم من بيوت الأموال على عدم التأمل للأمر، والتفهم بشروطه والنظور لأحوال يكون عليها الإمام ويختلف في حقه، وما عدم أهل تلك الكتب ومن حذا حذوهم أنهم رموا بمثل ذلك الكلام رمياً خالياً عن الأحكام، والاهتمام بعدم الإيهام لا جهلاً منهم للأمر، ولا قصداً للإلباس على الناس، وكلام (الأزهار) وشرحه أعدلها وأقربها إلى عدم الإشكال والإبهام، وهو صريح في تحقيق حال من يتعهد ويتوجه النظر في حاله، وأكثر الفقراء عن ذلك المعزل والغلط المشار إليه في هذا المعنى عن الأهم من وجوه أربعة:
الأول: إن المنقدح في نفوس المنافسين للإمام المشار إليهم أن هذا الواجب يجب على كل إمام، وأن ثبوت الإمامة يستدعيه ويقتضيه، ويصرحون بأنه ما شرعت الإمامة ووجب انتصاب الإمام إلا لهذا المعنى، والغرض من هذا الوجه ظاهره، فإنه ليس كل إمام يتمكن من ذلك، وكم من إمام لا يحتوي على شيئ، ولا يتمكن من مواساة فقير واحد فضلاً عن أن يواسي كل فقير فضلاً عن أن يغنيه، وحال الإمام الواحد يختلف، وقد يتمكن في وقت دون وقت، وقد يكون في بعض الأحوال ذا حال واسع وفي بعضها على أمر ضيق.(1/137)
فنيبغي أن لا يوجه للتشنيع إليه إلا بعد التحقيق لما هو عليه.
الوجه الثاني: إن المواساة وتعهد المحتاجين، إنما تجب على الإمام حيث وصلت في يده فضله بعد القيام مما لا يستقيم حاله إلا به، وبعد إعداد شيء نافع لما يعرض وينوب، ومع الخلو عن استيعاب الأمورالجهادية لما في يده من الحقوق الواجبة.
وقد صرح المنصور بالله -عليه السلام- بذلك، وقال ما معناه: إن مواساة الإمام للفقراء، إنما تتوجه مع عدم الاحتياج إلى سد الثغور واستقامة أمر الجهاد، وأما مع الحاجة إلى ذلك فهو أقدم ولو أدى إلى موت الفقراء للحاجة والمجاعة، لأن موت الفقراء لا يتعدى أضراره، ولا يؤدي إلى فساد في الدين بخلاف الإخلال بشيئ من أمر الجهاد وما يحتاج فيه.
وصرح الإمام إبراهيم بن تاج الدين في بعض رسائله بأن عماله لا يواسون الفقراء والمساكين إلا بربع الواجب، وأما ثلاثة أرباع فيتركه لما عدا ذلك. قال: إلا أن يتضيق أمر الجهاد فلا يعطوا الفقراء شيئاً.(1/138)
الثالث: أن أكثر من يدعى هذه الدعوى على الإمام، ويناقشونه في أمر أنفسهم، وهو من لا اهتمام له بشيئ من أمر الإمام والإمامة، ومن هو غافل عن ذلك معرض عنه غير مشتغل به، فلا يخطر بباله من تكاليف الإمامة وفوائدها وثمراتها إلا وجوب مواساة الفقراء من الإمام، وإنما يتعهد الإمام ويزوره لقضاء حاجة فقط، بحيث أنه لولا هي لما وفد عليه ولا التفت إليه، فلا يأتيه إلا مطالباً له بها، وهذه غلطة ظاهرة، فإنه لا يجب على الإمام أن يتعهد من لم يقم بشيئ من حقه وما يجب له، وما كلف الناس به من أمره، ومن فرط في أمر الإمام أو ما يجب له فحقه على الإمام ساقط.
وقد صرح المنصور بالله -عليه السلام- بذلك، ونص على أنه لا يجب على الإمام مواساة من لم يقم بحقه، ويؤدي ما كلف من أجله، قال -عليه السلام- ما لفظه: يجب الجهاد بالسنان والحسام، واليد والكلام، وكل أحد يقدر على الجهاد فمن لم يجاهد فلا حق له في الواجب، ولا على الإمام له عهده كيف وقد ارتكب عظيماً، وترك فرضاً جسيما.
قال: كل من كان قعيد بيته، وجليس أهله وعشيرته، فلا يلزم الإمام عهدته، ولا القيام بمؤنته، وله أن يعطي بعض الأشياع أو بعض الأجناد دون بعض وأكثر من بعض، كما كان رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-يعطي الحلفاء من الأعراب من بيوت الأموال نحو مائة بعير، وفقراء المهاجرين والأنصار، على الصفة يود الواحد مضغه من الطعام.(1/139)
وقال المهدي أحمد بن الحسين -عليه السلام-: يقتضي العامل الواجبات فيوفر منها ثلاث أرباعها للجهاد ويصرف في الفقراء والمساكين ممن قام بفرض الجهاد فإن لم فلا حظ له في شيء من ذلك.
الوجه الرابع: إن عدَّ مواساة الفقراء والمساكين من الحقوق اللازمة للإمام، هو بناء على قيام الناس بحقه في تأدية جميع الحقوق إليه، واستيفائه لها ومصيرها بيده، فحينئذ يجب عليه صرفها بمصارفها، ومن مصارفها الفقراء والمساكين ويتعلق به في ذلك ويتوجه الطلب إليه، وأما حث الإمام ما عليه بصفة ما عليه أكثر الأئمة -عليهم السلام- من عدم قوة اليد، وشدة القهر، وعجزهم عن استيفاء الحقوق كلها، وامتناع أربابها عن تسليمها كلها.
وكون الأكثر منهم متمردين فلا يصير إلى الإمام شيءمنهم وكون البعض لا يسلمون إلا البعض منها، فمن أين يجب مثل ذلك على الإمام؟.(1/140)