المذهب الفاجع الزائغ، المقتضي للهرب مما نص هذا الإمام الجليل على أنه ردة، وكقور نعوذ بالله منه ومن السلوك في مسالك الغرور، فيتبين أن المفتي بذلك المذهب من أهل الأهواء والأغراض والقلوب المراض.
واعلم أن مذهب أبي طالب في هذه المسألة ضعيف جدا، وقد وقفنا لبعض العلماء على نسبته فيه إلى الغلط، ثم إنَّا نوضح ضعف هذا المذهب، بوجوه غير ما تقدم ذكره:
أحدها: أن نقول: تسليم الحقوق إلى الإمام حق من حقوقه الواجبة على الإمام، وقد صرحتم بسقوطه عمن لم تنفذ أوامره عليه، ولم يكن من أهل الناحية الذين تظهر عليهم طاعته، وينفذ عليهم وطأته، فهل تقولون أن سائر حقوقه التي يجب لهم من طاعة أو محبة (والالتزام بعروته) والجهاد بين يديه وإجابة داعية وغير ذلك ساقطة عمن تلك صفته، بسقوط وجوب تسليم الحقوق إليه أولا؟
إن قلتم: نعم، هي كلها ساقطة عنه كسقوطه، كان حاصل كلامكم أنه من لم ينفذ أوامر الإمام عليه لم يتوجه الخطاب بوجوب طاعته إليه، فيكون وجوب القيام في حقه كعدمه، ولا يثبت إلى الإمام حكم من الأحكام إلا في حق من جرت أحكام ولايته عليه، حتى لو لم ينفذ أوامره إلا على أهل محله لم يكن إماما إلا لهم فقط، ولو لم ينفذ أوامره على أحد لم يكن إماما لأحد وكان كواحد من سائر الناس، وهذا إبطال لأحكام الإمامة، وتنكيس لها على الهامة، ورمي بها في جب ثمانين قامة، هذا مالا ينبغي أن يقول به مميز من الناس، ولا يلتبس عليه شيء من الإلتباس.(1/131)
وإن قلتم: إنه لا يسقط عمن لا ينفذ أوامره عليه من حقوقه إلا ذلك الحق فقط وبقية حقوقه باقية واجبة، ومن ينفذ أوامره عليه لازمة، قلنا: هاتوا لنا المخصص وأبرزوه، الذي قضى بأن الإمام إمام في جميع الأحكام إلا هذا الحكم المخصوص، فخروجه عنه منقوص، وهو تخصيص من غير مخصص، وفرق من غير فارق مخلص، وثانيها أن نقول: أخبرونا عن مقاتلة الخلفاء الراشدين، والأئمة الهادين، الذين كانوا عن تسليم الحقوق إليهم متمردين، هل قاتلوهم على أمر يستحقونه عليهم وولايته إليهم، أو لا؟
إن قلتم بالثاني فقد جعلتموهم باغين، وعلى من قاتلوهم متعدين، وإن (قلتم) بالأول فقد أبطلتم ما ذهبتم إليه، وعرفتم أن لا تعويل عليه،ولولا عموم ولاية الإمام لما ساغ له أن يقاتل مانع الزكاة عنه، ولا يقاتل إلا من لا نفوذ لأوامره عليه، وقد قلتم: لا يجب عليه أن يسلم الزكاة إليه.(1/132)
وثالثها: أن نقول: أليس الإمام إذا دعا فهو في حال دعوته ومبتدئ أمره لا تنفذ أوامره على أحد من الناس، بلا إشكال في ذلك ولا إلباس، فلو أن الناس كلهم مع معرفتهم لصحة إمامته، وجمعه لشرائطها، واعترافهم بذلك منعوه الزكوات والحقوق الواجبات، وقالوا: لا ولاية لك على ما لدينا من الحقوق، لأن أوامرك الآن لا نفوذ لها علينا، فنفرقها على المستحقين بأيدينا، أليس كلامهم صوابا على رأيكم!؟، فأخبرونا كيف يستقيم أمره بعد ذلك، ويتهيأ له الجهاد، ومنابذة الظالمين، والنظر في مصالح الدين، إنه لا يستقيم له حال إلا بما يقع في يده من بيت المال، وهذا أمر ظاهر لا يدفع، ومكشوف لا يتقنع، فتبين لك بما ذكرناه وأوضحناه، أن هذا المذهب لا يعول عليه، ولا يلتفت إليه، ولا يفتي به من يريد وجه الله تعالى والدار الآخرة، وإنما يفتي به أهل الأهواء الباطنة والظاهرة، وكافيك عن ذلك كله أن الأدلة الدالة على ثبوت ولاية الإمام في ذلك لم تفرق بين من ينفذ أوامره عليه، ومن لا نفوذ لها في حقه، وأنه لا يعلم للقول بالفرق في هذه المسألة حجة عليه، ولا دليل يتوجه إليه، والله أعلم بالصواب، وهو المرجو لإزاحة الشك والارتياب.(1/133)
القول فيما يلزم الإمام للرعية ويتعلق بذلك من الأحكام الشرعية
يلزمه أن يسير فيهم السيرة المرضية، المطابقة للسنة النبوية، الخالصة عن شوب الهوى، ومحبة الدنيا الدنية، فيأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويقيم الحدود على مرتكبها، ويغيث المظلومين، وينابذ الظالمين، ويجد في تنفيذ الشريعة المطهرة وأحكامها، ونصب قضاتها وحكامها، ويعامل المتقين بالرفق وحسن الخلق وإلانة الجانب، ويعامل الفجار بخلاف ذلك، ولا تأخذه في الله تعالى لومة لائم، ولا يحجم عن شيء مما ذكر إلا لعذر مانع، وعائق حائل أو خيفة مفسدة في الدين لا تقوم بها تلك المصلحة.
ومن تكاليفه ما هو مقصور عليه لا يقوم به غيره، كإقامة الجمعات، وتجنيد الجنود، وحفظ بيضة الإسلام، وغزو الكفار والبغاة، ونحو ذلك، ومن تكاليفه ما يعمه وغيره كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإصلاح الطرق، وعمارة المساجد ونحو ذلك.(1/134)
وهذا النوع يكون أكد في حقه وألزم له، وعليه تسهيل الحجاب، بحيث يتصل به الضعفاء والمساكين والمظلومون لقضاء حوائجهم التي يجب عليه قضائها، ولا يجب ذلك مستمراً بل في بعض الأوقات، بحيث لا يتعذر على من ذكر ما ذكر، وإلا فإن له أن يحتجب في بعض الأوقات للخلو بأهله وخاصته، وقضاء مالا بد له من قضائه، من أكل وشرب، ونوم وقضاء حاجته، وفعل عبادة، وعليه تقريب أهل الفضل يعني أنهم يكونون أقرب اتصالا به من غيرهم لأنه ينبغي تعظيمهم وهذا نوع منه، وقد أرشد الله إلى ذلك بقوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}[الكهف: 28] الآية. ومجالستهم حتى يكتسب من علم، أو عمل، أو تذكر بأمر الآخرة، وعليه الاستشارة للأعيان فيما لنظرهم فيه مجال ومكان من أمور الأمة، قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ }[آل عمران: 159] وعليه أن يتعهد الضعفاء فيما يحتاجون إليه، حسب ما يتوجه عليه من عطاء أو إنصاف من ظالم مما يحتاجون، والمراد بهم من لا يتصل به من النساء والصبيان ومرضى المساكين، وعليه في أمور الجهاد وآدابه ما يذكر في بابه، وتكاليف الإمام كثيرة، وإنما هذه نبذة يسيرة إلى المقصود مشيرة.(1/135)