وقوله -صلى الله عليه وآله وسلم- لمعاذ حين أرسله إلى اليمن: ((إعلم أن في أموالهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، وترد في فقرائهم)) والإمام خليفة الرسول، والقائم مقامه فيما يتعلق بأحكام الشرع إلا ما خصه الدليل، وقد قال أبو بكر في أمر بني حنيفة: لو منعوني عقالاً، أو قال: عناقاً مما أعطوه رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لحاربتهم، ولم ينكره أحد من الصحابة -رضي الله عنهم- بل استقر رأيهم كلهم على ذلك، وعلى ذلك جرى عمل الخلفاء الأرشدين، والأئمة الهادين، خلفاً عن سلف، ما تباين رأيهم في ذلك ولا اختلف، والمعلوم من أمر رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وخلفائه وأئمة الأمة، استعمال العمال على الزكوات، وبعث السعاة في جميع الجهات، لقبض ظاهرها وباطنها، وخافيها في أداني الأرض وقاصيها، وجهاد من عصاهم في تسلميها، والتصريح بتشنيع جريمته وتعظيمها، وقد خالف الفريقان الشافعي وأصحابه، وأبو حنيفة وأصحابه، في الزكوات الباطنة، زكاة النقدين وما في حكمهما، وأموال التجارة، والمعنى ما كانت زكاته ربع العشر فقالوا: إن ولاية ما هذه حاله إلى أربابها، وليس لولاية الإمام تعلق به، ونسب هذا إلى جماعة من متقدمي أهل البيت -عليهم السلام-، وحجة أهل هذا المذهب قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}[البقرة: 271].
قال الفقيه ف ابن عثمان -رحمه الله تعالى-، وأعاد من بركاته في (الثمرات): ويحتمل أن المراد صدقة النقد أو مع عدم الإمام انتهى.(1/126)
ولا كلام إن دلالة هذه الآية غير صريحة ولا واضحة، فإنها مرجوحة غير راجحة،لما تقدم من أدلة المذهب المختار، وقال الشافعي في أحد قوليه وهو الجديد وكذلك زكاة الأموال الظاهرة كالمواشي، وما أخرجت الأرض، ولا حجة له في هذا إلا القياس على الباطنة، وإذا اختل الأصل لم يصح ما يبنى عليه فهذا ما سنح ذكره في هذا الفصل، واقتضى المقام ذكره، والمسألة مبسوطة في مواضعها من الكتب الفروعية.
تنبيه: وفي حكم الزكوات في ثبوت ولاية الإمام عليها، واستنادها إليه الفطرة، والخمس، والجزية، والخراج كالصلح، وما جرى هذا المجرى، وبالجملة فجميع الحقوق إلا ما كان وجوبه سبب من المكلف كالكفارات، والمظالم المجهولة، وما هو بسبب منه، فالجمهور أن ولايته إلى من وجب عليه ولا يخلو عن خلاف تحقيقة في موضعه، والله تعالى أعلم.
فائدة عظيمة النفع، ينبغي أن يصغى إليها ويعول عليها:(1/127)
إعلم أن مدار أمر الإمام فيما يراد منه، وما يقوم لأجله عن حقوق الله ومصيرها إليه أداء الجهاد الذي هو سنام الإسلام وأجل فرائضه، لا يقوم ويتهيأ إلا ببذل الأموال، وتجنيد الأجناد، وإعطاء الرغائب، وكذلك غيره من مصالح الدين ومواساة المحتاجين، وتعهد المساجد والمناهل، وإحياء العلم والتدريس، وإطعام الطعام، وارتباط الخيل وغيرها، مما يدور أمره عليه، والإنفاق على العالم والعهد وغير ذلك بحيث أنه لولا ثبوت الأموال وحقوق الله لما أمكنه النظر في شيء من تلك الأمور، ولكان كآحاد الناس لم تستقم له راية، ولا كان على إمامته آية، فسبيل من وفقه الله تعالى للقيام بحق الإمام تعظيم هذا الحق الذي للإمام في قلوب أهل الإسلام، والحث عليه والدعاء إليه، ومن التفريط في جنب الله والإساءة إلى الإمام الداعي إلى الله تعالى ما اعتاده كثير من المتسمين بالفقه، المتسمين بالتشنيع، المدعين للتمييز من التثبيط للناس عن تسليم الحقوق إلى الإمام، والترخيص لهم في ذلك وإفتائهم بأن ولاية زكواتهم إليهم، ومدار النظر فيها عليهم، وأنه هو المختار للمذهب، وليس وراء ذلك للمرء مطلب، والذي دعاهم إلى ذلك التحامل على الإمام، وكراهية الصلاح لأمره، والإنتظام والتهافت على اختطاف الزكوات، والولع بالأخذ وقول هات، بحيث أنهم لو رضوا عن الإمام، وحظوا منه بالمرام، ما أفتوا بهذه الفتوى، ولا صرحوا بهذه الدعوى، وما أفتوا بما أفتوا به إلا اتباعاً للأهواء، وخبطاً كخبط عشواء، ولا تحل الفتوى إلا لذي الاجتهاد، والنظر الوقَّاد، أو لذي الترجيح الفارق بين السقيم والصحيح، ما قرر كلاماً(1/128)
في كتاب، أو قراءة قرآة بتلقن مرتاب، فحقه الإعراض والسكوت، ليس (بعثك فاردجي) ولكن التجاسر على الفتوى ممن ليس بأهلها من بدع الزمان.
وخير أمور الناس ما كان سنة .... وشر الأمور المحدثات البدائع
وهذا المذهب مشهورة نسبته إلى أبي طالب، وروي عن الهادي، والناصر، وأبي العباس، وظاهر كلام (الإنتصار) أنه إنما عزي إلى الهادي -عليه السلام- لما في سيرته من كونه نهى عن أخذ الزكاة ممن نأئي من البلاد التي لا يليها، لأنه لا يحميهم فإن سلموها طوعا جاز وهذه رواية، الله أعلم بصحتها.
والتعليل بعدم الحماية عليل، وليس الزكاة كالجزية ولا العلة في وجوبها حماية أهلها وأمانهم، إنما هي عبادة مالية بحت، حمي صاحبها أو لم يحم أمن أو لم يأمن، ويمكن الاستدلال بهذا على ضعف الرواية، فمثل هذا التعليل ما ينبغي أن يصدر عن ذلك الإمام الجليل، وقد قال -عليه السلام- في (الأحكام): وإذا كان في الزمان إمام حق فإليه استيفاء الزكوات كلها من أصناف الأموال الظاهرة والباطنة، وإلى من يليه من قبله، وله أن يجر أرباب الأموال على حملها إليه، ويستحلف من يتهم بإخفائها، قال في (الإنتصار): وحكي عن الناصر أنه قال: وللإمام المطالبة بزكاة الأموال الظاهرة والباطنة، وليس لأربابها أن يدفعوها إلى أحد (ممن) يحبون من قرابتهم، ويلزمهم دفعها إلى الإمام ومن يلي من قبله بأمره ليدفعها إليه، وللإمام أن يعزز من فعلها.
قال الإمام يحي -عليه السلام-: فهذان الإمامان قد تطابق كلامهما وتوافقا على أن نظر الزكوات إلى الإمام الذي على الحق والعدل.(1/129)
قلت: وليس في كلامهما -عليهما السلام- هذا تصريح ولا تعريض، بأن ذلك مقصو(ر) على جهة دون جهة، ولا على ناس دون ناس، ولا أنه يتوقف على نفوذ الأوامر، ثم نقول لأهل الفتوى: تلك الفتوى المتبعة للأهواء، قد نص في (الياقوتة) وغيرها على أن الأفضل عند أهل هذا المذهب الصرف إلى الإمام، فإذا أفتيتم به فلِمَ لم تعرفوا العوام بأن الأفضل خلاف ذلك، ثم نقول لهم: قد ذكر الفقيه العلامة يوسف بن أحمد بن عثمان، في (الزهور)، وغيره، وحكوا عمن حكوا عنه أن هذا مع عدم مطالبة الإمام بالحقوق، فأما مع المطالبة منه فيكون أمرها إليه إجماعاً، ثم نقول: قد نص أهل المذهب على أن للإمام أن يلزم الناس مذهبه فيما يقوي به أمره، فأين أنتم عن الإلزام وعن وجوب الإلتزام!؟، ثم نقول لهم: هلا قصدتم الله عز وجل في العوام بأن تفتوهم بما هو الأحوط لهم في دينهم، فإن القائلين بأن ولايتها إليهم يقولون بأن صرفها إلى الإمام أفضل، والقائلين بأن ولايتها إلى الإمام يقولون صرفهم لها بأنفسهم لا يجزيهم، ويصيرون آثمين مطالبين بها في الدنيا والآخرة، فأي شيء هو الأولى لهم تسليمها إلى الإمام فيقع الخلاص لهم إجماعا، أو تفريقها بأيديهم فيكونوا في ذلك عند البعض آثمين مجرمين مفرطين متبوعين، بل أعظم من هذا، أن الإمام المنصور بالله –عليه السلام- نص في (المهذب) أنه من أخذ الزكاة في عصر الإمام معتقداً لجواز الأخذ كان ردة، لرده ما علم ضرورة وإن أخذ ما علم بالتحريم كان فسقا، وهكذا يكون عنده حكم الصارف إذ لا فرق، فهلا إذاً كنتم لستم في منصب الإفتاء، وإنما قصدتم الحكاية حكيتم هذا(1/130)