فائدة: سلك بعض أهل الزمان في أمر الإمام مسالك غير معهودة، ولا ينبغي أن تكون لأهل المعرفة والديانة بمقصودة وما هي إلا بدع محدثة منكرة، ومجانبة للمناهج الواضحة النيرة.
وخير أمور الناس ما كان سنة .... وشر الأمور المحدثات البدائع
فمن ذلك ما اعتمده بعض الأعيان من معاملة الإمام معاملة لا تقضي بنفي ولا إثبات ولا توقف، وأظهر مدح الإمام والثناء عليه والتعظيم له، والتمس منه الولاية في التصرفات المبتنية عليها، واستعطى منه، وقبل عطيته مما أمره طوعاً وكرها، ومما عاقب به العصاة، ومما ضمنه من عليه حقوق لله تعالى، وحصره فحث العوام على طاعته وبيعته ومصارفته، فهذا نوع يقضي بالإثبات، ويخالف حال المتوقف والنافي وينافيه.
ومن طريق آخر: يتحرى في مكاتبة الإمام عن وصفه بالإمامة، وعن تلقيبه بأمير المؤمنين، وعن الإجابة على من سأله عنه بأنه إمام، وهذا مقتضى حال النافي أو المتوقف واستحسن هذه الطريقة وسلكها إلى أن فارق الدنيا، وتابعه غيره عليها، وربما كان يقول هذا رجل كان له كمال ومحاسن خلال، وقد أجابه وبايعه العلماء والفضلاء، وأهل الحل والعقد، وهو أصلح وأنهض من غيره، وتأهله لهذا الأمر وقيامه بتكاليفه أصلح من طرحه له وإهماله إياه، وليس غيره يقوم مقامه، ومن مثل هذا يقضي العجب، فإن القواعد المعروفة قاضية بأن الداعي ليس إلا أحد رجلين.
إما كامل الشروط جامع الصفات المعتبرة، حسن السيرة والسريرة، فهو إمام قطعاً، ومتابعته ومشايعته والتصريح بإمامته كل ذلك واجب شرعاً.(1/116)
وإما خال عن كمال الشرائط منتقص الصفات، فالواجب نفي إمامته، وعدم إظهار متابعته، والحكم عليه بما يقتضيه حاله، واجتناب مذاهبه، وأما هذا المذهب الغريب، والدين المستحدث المريب، فهو من البدع المصادمة لما أوجب الله تعالى وشرع، ولولا محبة الإجمال والستر لأوضحنا الأمر، وصرَّحنا بما حمل على ذلك من الأغراض الدنيوية والمقاصد التي ليست بمرضية.
ومن ذلك ما اعتمده كثير من المميزين وأهل الدين، من التهاون بأمر الإمام، وعدم الاحتفال به والاهتمام، وعدم مواصلته بلسان ولا قلم، وتنزيل وجوده منزلة العدم، وعدم الإنتهاض إليه، ورفض التعلق والتعويل عليه، حتى كأن هذا تكليف قد نسخ أو أمر قد فسخ، ولا يظهر منهم أن ذلك لتحققهم لعدم كماله وانتقاص شرائطه وخصاله، ولو ادعوا ذلك لن يساعدوا إليه، ولا يقرروا عليه وإلا فمن أين لهم الطريق إليه، فإنهم ما رأوا الإمام ولا أبصروه، ولا نهضوا إليه ولا اختبروه، وإن ادعوا أن ذلك تواتر لهم، وانتهى إليهم فغير صحيح لأن المعلوم من حال من واصل الإمام من ناحيتهم ونهض إليه من جهتهم أنهم لا يعودون منه إلا قائلين به معتقدين لإمامته، محسنين للثناء عليه، وإنما الحوامل لهم على ذلك متنوعة.(1/117)
فلعل منهم من حمله على ذلك محبة السكون والدعة، وعدم الإضطراب والزعزعة، والسلامة عن شوائب دنيوية تعرض لملتزم العروة الإمامية، كان حي والدنا الإمام علي بن المؤيد-عليه السلام-، إذا سئل عن أعيان بايعوه وتابعوه أول الزمان، ثم رفضوا ذلك الشأن، يقول -عليه السلام-: ((غلب عليهم حب المدن، ولعل منهم من دعاه إلى ذلك الآنفة عن الإنخراط في سلك الأتباع، والتعاظم أن يعد من زمرة الأشياع، وما كان ذلك يليق بذي ديانة وتحقيق، فإن الكبر على كل تقدير مذموم، وصاحبه في الدنيا منتقص ملوم، وفي الآخرة للجنة التي وعد المتقون محروم، فكيف إذا صد عن القيام بما أوجب الله تعالى من حقوق الإمام، ولعل منهم من يعتقد أن الإمامة درجة مرتفعة، لا ينالها أحد من أهل الأزمان المتأخرة، ورتبة منيعة عليهم متنكرة متوعرة، وأنها أمر قد طوى وتعذر بكل حال وما كانت إلا منذ مدة الإمام فلان فما قبلها من الأزمان، وهذه جهالة ونوع ضلالة، فلم يكن مثل ذلك حجراً محجوراً، وما كان عطاء ربك محظوراً.
وغير مستبعد (و) لا مستبدع، أن يدخر لكثير من المتأخرين، ما عزب عن كثير من المتقدمين، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، وليس في العقل ولا في الشرع ما يقضي بأن شرائط الإمامة قد تعذرت، وأن مسالك الساعين إليها قد توعرت)).(1/118)
3- حكم من امتنع من بيعة الإمام
الذي ذكره الإمام الهادي إلى الحق -عليه السلام-، في كتاب (الأحكام): أنها تطرح شهادته، وتسقط عدالته، ويحرم نصيبه من الفيء.
قال الإمام يحيى بن حمزة -عليه السلام-: سقطت عدالته، لأن الإجماع منعقد على فسقه بمخالفته الإمام، فيما تعود مصلحته على عامة المسلمين، قال -عليه السلام-: وإنما طرحت شهادته فلأنا إذا حكمنا عليه بالفسق، لم يكن مقبول الشهادة، وأما تحريم الفيء فإنما يستحق بالنصرة للإمام والكون تحت طاعته.انتهى.
والحاصل أنها من ما يجب للإمام على المأموم وإن امتنع منها فقد أخل بواجب، ودليل وجوبها الآية الكريمة: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ}[النساء: 59]ولا طاعة لمن امتنع من بيعة الإمام، ولأن فيها قوة لأمر الإمام، وقد يقع بها تهوين أمر من يعاديه، وينتظم بها الحال، ويجتمع به الشمل، وتقع بها السكينة والطمأنينة في قلب الإمام، وظنه بنفسه على المأموم، وتحصل بها مراعات المأموم، لما شملته وتأكد طاعته، ويحاذر من مخالفتها أن يصير منسوباً إلى حزب الناكثين، والدخول في زمرتهم.
وكما أنها تجب حيث طلبها الإمام أولاً، فإنها تجب حيث طلبها ثانياً وثالثاً لما ذكرناه، والنظر في ذلك إلى الإمام حسبما يراه مصلحة، فإن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بايع الأنصار قبل خروجه من مكة بيعتين، بيعة النساء سميت بذلك، لاشتمالها على ما اشتمل عليه بيعة النساء المذكورة في سورة المودة.
ثم بيعة العقبة على الموت: وبايع بعد مصيره إلى المدينة بيعتين:(1/119)
فالبيعة الأولى: بيعة الرضوان، لما أمر عثمان أن يتحسس له أخبار مكة، فبلغه أنهم قتلوه، وهي بيعة الرضوان وبيعة الشجرة.
والبيعة الثانية: يوم الحديبية، وإرسال عثمان إلى مكة كان من الحديبية، والإرجاف بقتله بلغ إلى الحديبية فبايع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أصحابه على مناجزة القوم، وصفق شماله على يمينه فبايع بها لعثمان، وكلام جابر في هذه البيعة التي هي بيعة الرضوان، وبيعة الشجرة، وبيعة الحديبية.
قال في سيرة ابن هشام في غزوة الحدبيبة، وقصتها: لما بلغ رسول الله
-صلى الله عليه وآله وسلم- أن عثمان قد قتل لا يبرح حتى يناجز القوم، ودعا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- الناس إلى البيعة، وكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة فكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- على الموت.
وكان جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- يقول: إن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لم يبايعنا على الموت، ولكن بايعنا على أن لا نفر، والله سبحانه وتعالى أعلم.(1/120)