ويتفرع على هذه الجملة سبعة أحكام
[1] حكم: هل قول الإمام يكون حجة يجب العمل به؟
حكي عن السيد أبي العباس والإمامية: إن قوله حجة فلا يجوز لأحد مخالفته فيما قاله.
والذي عليه الجماهير من الأئمة وسائر الأمة أنه ليس بحجة، وفصل الإمام يحيى -عليه السلام- فاختار أنه حجة فيما يتعلق بالفتاوى دون غيرها لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}[النساء: 59]وهو عام في وجوب الطاعة إلا ما خرج بدليل، ولقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ }[النساء: 80] فإذا كان الإمام مطيعاً للرسول فيما أفتى به من الأحكام الشرعية وجبت طاعته.
قال: وهذا هو المراد بقولنا إن قوله حجة لا يجوز مخالفتها فيما أفتى به من الأحكام الشرعية المطابقة للكتاب والسنة.
فأما غير الفتاوى فلم تدل عليها دلالة فلهذا لم تكن لازمة، واحتج القائلون بأنه حجة مطلقاً بإنه كما لا يجوز مخالفته فيما حكم به كذلك فيما قاله، واحتج النافون مطلقاً بأن إثباته حجة لا تصح إلا بدلالة عقلية أو شرعية ولا دلالة على ذلك من أي الجهتين.
قلت: وحجة (..........)بحجة قوله مطلقاً باطلة، لأن قياس ذلك على حكم قياس فاسد، إذ لا جامع بين الحكم وغيره، ولو لزم ذلك في الإمام للزم في الحاكم المنصوب للقضاء إذ لا يجوز مخالفة حكمه.(1/111)


وأما ما احتج به الإمام يحيى -عليه السلام-، على ما اختاره من التفصيل، فاحتجاج عليل، لا يخفى على متأمل، خفى وجهه ودلالته، وأن الذي احتج به إن دل على أن قوله في الفتاوى حجة فليدل على ذلك في غيرها فليس ما أدلى به يختص بالفتاوى دون غيرها.
وقوله: فإذا كان الإمام مطيعاً للرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى آخر كلامه فيه ركة، وما كان مثل ذلك ينبغي أن يصدر عن مثله.
قلت: بل حكم من بلغه دعوة الإمام، وتحقيق ذلك: أنه إن علم جمعه للشرائط بالتواتر، فإن كان له عذر عن الوصول إلى الإمام لم يغفل عن الدعاء إليه وعن الدعاء له، والعذر كمرض مانع أو كَفْل والدين عاجزين لا يجدان من يكفلهما غيره أو ملازمة غريم لا يجد قضائه، أو خوف على نفسه أو ماله، وإذا لم يكن له عذر توجه عليه النهوض إلى الإمام والبلوغ إليه لتحقيق حاله فليس الخبر كالعيان، وليتعرف الإمام ويعرض عليه نفعه فيما يصلح له كتولي عمل أو قضاء أو نحو ذلك كالوزارة، حيث كان من أهل الرأي والمشورة، ولا يجوز له التأخر والتراخي، إلا حيث علم أن لا حاجة للإمام إليه.
قال الإمام يحيى -عليه السلام-: وإذا كان له مال وفيه سعة وجبت عليه المواساة له، بما قدر عليه مما يكون فاضلاً عن كفايته وكفاية من يمونه لقوله تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ }[الصف: 10] إلى آخر الآيات فنفهم منه وجوب الجهاد بالمال كوجوبه في النفس، وإن علم بالتواتر أو الخبرة عدم جمع الداعي للشروط، فلا يجب عليه النهوض إليه ولا إلى غيره إذ الإمامة باطلة.(1/112)


وإن كان لا علم له بكمال الداعي ولا عدم كماله، فإن كان لا عذر له نهض إليه ليختبره ويعرف حاله فيما مثله يعرفه، ويسأل غيره عما لا يعرفه كما لو كان غيره عالماً أو كان عالماً ببعض الفنون دون بعض، فإنه يرجع إلى من يعلم ذلك كله ممن يثق به، وإن كان له عذر بحث وسأل واستخبر من مشافهة ومكاتبة، وكان فرضة الرجوع إلى أهل المعرفة والفضل، وقد تقدمت في ذلك إشارة.
تنبيه: إذا خشى المكلف من ظالم في بلدة على نفسه إذا نهض للبحث عن حال الإمام أو إذا قام بما يجب له عليه، فإن الهجرة تلزمه عن دار شوكته، لأنه محمول حينئذ فيها على الإخلال بواجب كما لو حمل على ترك الصلاة ونحوها.
تنبيه آخر: ما ذكر من وجوب البحث ثابت على الرجال فقط دون النساء، فالأقرب أنه لا يلزمهن البحث لأن فرض الجهاد ساقط عنهن ووجوب متابعة الإمام فرع على وجوب الجهاد.
وأما الزكاة فللإمام مطالبتهن بها وأخذها منهن، إذ له أخذها ممن لا يعتقد إمامته ولهن أن يقلدن في صحة إمامته، ذكره المهدي -عليه السلام-. قال: وهو الذي يترجح عنده، وفي (تعليق اللمع) للدواري، ما لفظه: لا يلزم المرأة معرفة إمام زمانها بالإجماع، إلا إذا كان عليها زكاة فعليها أن تعرف إمامته لتدفع الزكاة إليه أو بإذنه.(1/113)


2- حكم من توقف في الإمام
اعلم أن التوقف يختلف باعتبار القصد فيه وباعتبار مدله.
أما القصد فإن عرف من المتوقف أن توقفه لسوء قصد، كأن يتوقف عن اتباع الإمام وطاعته، أو يشق عليه أمر المتابعة والقيام بحق الإمام، وتكاليف الإمامة مع معرفته لصحة الإمامة، أوْ وِجْدَ أنه السبيل إلى معرفتها، أو كان توقفه لغرض يعود عليه، وعرض من أعراض الدنيا يتوصل إليه،أو لئلا يفوت عليه بالإثبات أو النفي مأرب له ومكاسب أو نحو ذلك، فمن هذا حاله لا ينبغي أن يعد متوقفاً بل جائراً على الحق متعسفاً وأنه من المتهاونين بأمر الدين مخطئ آثم منخرط في سلك أهل الجرائم.
وإن كان توقفه للتحري في أمر دينه، والتثبت في إقدامه وإحجامه، والمخافة من زلل أقدامه، فلينظر في وقت توقفه إن كان في زمان يسير، لا بد للتثبت من التوقف في مثله، وهو ما يسع للخبرة التامة، والمباحثة الشديدة الأكيدة، والمتوقف على هذه الكيفية ممدوح غير مذموم، وبرئ من النقادة غير ملزوم.(1/114)


وأما إذا أفرط وغلى في التوقف، وطالت فيه مدته وجاوز القدر المحتاج فيه، فمخطئ آثم لتفريطه فيما أوجب الله تعالى عليه من القيام بحق الإمام، حيث كان المتوقف فيه كامل الشرائط ثابت الإمامة، ومن المباينة له وعدم التلبيس في أمره حيث كان غير ثابت الإمامة فإنه من دعا وليس بكامل ولا محتوٍ للصفات المعتبرة والشروط المحررة فمباينته واجبة، لا ينبغي في حقه الإدهان، بل يجب كشف القناع والتحذير في حقه عن الإتباع، لأنه ترشح لما ليس أهلاً له، ودخل في أمور محرمة عليه، وتصرف تصرفات لا تسوغ له في النفوس والأموال، ولكن التوقف مع صحة إمامة الداعي أشد خطراً وأعظم تفريطاً، لأن الواجب عليه مع ذلك أوسع وأشد وألزم مما إذا كان الداعي غير إمام، ومع ذلك فهو أقل جريمة من النافي إلى سهولة التدارك والتلافي، وقد كان قال في (الغيث): البحث عن الإمام بعد بلوغ دعوته واجب مضيق، لا يجوز التراخي عن البحث لغير عذر فسق، ولا يسعه الإخلال باعتقاد إمامة الإمام، والقطع بها إلا مهلة النظر فقط، لأن العزم على طاعته بعد بلوغ دعوته واجب مضيق للآية: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ}[النساء: 59] فقرن طاعته بطاعة الرسول، ولا شك أن طاعة الرسول واجبه مضيق، والنظر في صحة (نبوته) مضيق لأجل ذلك، فكذلك الإمام، قال: ولا منازع في ذلك ولا أحفظ فيه خلافاً، ولا أسمع أن أحداً من الأمة يسوغ التراخي عن التزام أمر الإمام بعد قيامه، والإلتزام يتوقف على النظر في كماله، فحينئذ يكون النظر في أمره واجباً مضيقاً من دون تردد.(1/115)

23 / 60
ع
En
A+
A-