وأما تنحيه عن الأمر لا إلى غيره، واعتزاله عن التكاليف الإمامية وإطراحه لها، فقد قال الإمام عماد الإسلام: لا خلاف بين أئمة العترة والزيدية، والمعتزلة والفقهاء، أنه لا يجوز لمن كملت فيه أوصاف الإمامة أن يعتزل عن النظر في أمر الرعية، ويتنحى عن التصرف فيما يتصرف فيه الأئمة، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا كان يجد من يعينه على ذلك من أهل الفضل والدين، فإن لم يجد من أهل الفضل وأهل العلم من يعينه على أمره جاز له الإعتزال والتنحي ويكون ذلك عذراً في الإعتزال، كما فعل أمير المؤمنين في أول الأمر، فإنه اعتزل عن التصرف لما لم يجد أعواناً على مأربه مع أن الحق كان له إلى أن وجد الأعوان على ذلك، وكما فعل الحسن بن على لما فسد عليه أصحابه وخذلوه فإنه اعتزل الأمر وخلاه لمعاوية.
وكما فعل القاسم لما بويع له واجتمع إليه الناس لما رأى فشلهم ونكوصهم عن نصره وفساد قصودهم وميلهم إلى الدنيا، وإعراضهم عن الآخرة، وغلب على ظنه أنه لا يمكنه القيام بالأمر فاعتزل، وهكذا غير هؤلاء من سادات أهل البيت وأئمة العترة، يعتزلون عن التصرف إذا لم يجدوا ناصراً، لأن المقصود وجه الله تعالى والإعراض عن الدنيا، فإذا لم يكن الأمر صافياً عن الأغراض الدنيوية كان ذلك موجباً للإعتزال، وهذا هو اللائق بمن كان مقصوده الأمور الأخروية.
وقال الإمام المهدي -عليه السلام- ألأصح في فعل علي بن أبي طالب رضى الله عنه، والقاسم -عليه السلام-، أنها لم تبطل ولا يتهم، بل (با)اعتزالهم المذكور، ولكن يسقط فرض الجهاد فقط.(1/106)


وأقول والله الموفق: ينبغي تلخيص هذه المسألة وتحقيق النظر فيها، وإني لم أزل أتأمل في أمرها والنظر في أطرافها، وأعدل ما يقال فيها، والأقرب أن حال الداعي الداخل في هذا الأمر المتحمل لإعباءه، لا يختلف في أول الأمر وأخره، فلا يكون لدخوله في هذا الأمر تأثير في اختلاف التكليف بل تكليفه بعد دخوله كتكليفه قبله، ولا يختلف الحال إلا باختلاف الإعتبارات، وتعاكس الحالات، فمتى فرض أنه قبل قيامه قد تعين عليه الأمر، وتحتم عليه هذا التكليف، وصار لازماً له، لا مخلص له عنه بأن لا يقوم أحد مقامه، ولا يسد مسده، وحيث يؤدي تأخره إلى اختلال أمور الدين وانتشار نظام الإسلام، قد دخل في ذلك الأمر قاصداً لوجه الله تعالى.(1/107)


قائماً بما فرض الله تعالى فما عدا مما بدا، وحاله في الإنتهاء كحاله في الإبتداء، وحيث لم يتحتم الأمر عليه ولا يتوجه إليه، وكان واجباً مخيراً أو فرضاً موسعاً وغيره يقوم مقامه، ويسد مسده، واستمرت الحالة هكذا من قبل قيامه إليها بعده، فليس دخوله في الأمر بعد عقد الإمامة لازماً وأمراً موجباً، كنذر الناذر وهبة الواهب، وبيع البائع، ولا ثمَّ دليل ولا شرع يقضي بأن نفس الدخول في هذا الأمر يعد من العقود اللازمة والموجبات القائمة، هذا على سبيل الجملة، ثم إذا فرض انه دخل في الأمر لتعيينه عليه وتضيقه في حقه، ثم اتفق بعد ذلك أن نشأ (وحصل) من الصالحين لهذا الأمر والذين يقومون مقامه طائفة بحيث أن تنحيه لا يؤدي إلى ضياع الأمر وانتشار النظام، وتنفس أهل الظلم والإجرام، صارت الحال غير الحال، واتسع حينئذ المجال، وكذلك لو فرض أنه دخل في الأمر لا لتعيينه عليه بل ليقوم بفرض الكفاية، لوجْدَ أن الصالح غيره، ثم تعقب ذلك عدم من يقوم مقامه ويسد مسده، فإنه يصير الأمر مضيقاً عليه ومتعيناً بعد أن لم يكن كذلك.
وكذلك فرض أنه دخل في الأمر لتعينه عليه وتحتمه ولزومه، غالباً على ظنه وجود الأعوان وصلاح الشأن، فاتفق بعد الخذلان، وخان العهود وخان، حتى آل الأمر إلى البطلان، فإنه مع ذلك يصير في فسحة من الأمر ويكون في تخلصه من الدرك، وخروجه عن هذا التكليف أمير نفسه، بل الخروج والتخلص عن الدرك أولى به وأليق بحاله.(1/108)


فكذلك لو فرض أنه لم يتهيأ له استقامة حاله، وانتظام أمره، إلا بخروجه عن القانون الشرعي، وبسلوكه السبيل غير المرضي، واعتلاقه بما يؤثمه من التصرفات، وإن كان في خلال قائماً بالأمور المهمات، ومحصلاً للمصالح الدينيات، فإنه لا يلزمه أن يتعرض للإثم، ويضر نفسه لينفع غيره، فإن نظره لنفسه أولى به وأوجب عليه، ولا ينبغي أن يكون كذبالة يضيئ للناس وهو يحترق.(1/109)


القول فيما يلزم الرعية للإمام
قال الإمام يحيى -عليه السلام-: يجب عليهم نصرته ومؤازرته وإعانته، ومعاضدته وإعانته على ما في وجهه من المكالف، وأن يطيعوه فيه، وينقادوا لأمره، وينهضوا إذا استنهضهم لقتال عدوه، ولا يكتمون عليه شيئاً من النصائح، ويجذبوا له النصيحة من أنفسهم سراً وجهراً، ويحرم عليهم خذلانه، قال -عليه السلام-: والأصل في ذلك كله، قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}[النساء: 59].
قال: وأولو الأمر هم الأئمة بإجماع الأمة، وروى زيد بن علي، عن آبائه، عن علي -عليهم السلام- أنه قال: ((ثلاثة لا ينظر الله تعالى إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: رجل بايع إماماً عادلاً فإن أعطاه شيئاً من الدنيا وفا له وإن لم يعطه لم يف له، ورجل قاعد على ظهر الطريق يمنع سابلة الطريق، ورجل حلف بعد العصر لقد أعطي بسلعته كذا وكذا وأخذها الآخر مصدقاً له بيمينه وهو كاذب)).
قلت: ظاهره وقف هذا الحديث على علي -عليه السلام-، وهو مما رفع إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وأخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود والنسائي، من حديث أبي هريرة، ولفظه: ((ثلاثة لا يكلمهم الله تعالى يوم القيامة ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بطريق يمنعه ابن السبيل، ورجل بايع رجلاً في سلعة بعد العصر فحلف له بالله تعالى لأخذها بكذا وكذا فصدقه وأخذها وهو على غير ذلك، ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا للدنيا، فإن أعطاه منها ما يريد وفا له وإن لم يعطه لم يف له)).(1/110)

22 / 60
ع
En
A+
A-