يشير على أنه جاء حال الإنتهاض لافتتاح تلك المدينة، ويزعم كثيرون أنه إنما ضمن أبياته البيت المذكور، لتشير إلى حصول الأيس منه بخروجه وما يقتضي من بطلان إمامته، وصحة إمامة نفسه، ثم كان لهما موقف شهده الفضلاء والعلماء بصعدة، في دار القاضي يحي بن عبد الله بن حسن الدواري، في أول يوم الجمعة، وجرى فيه التسليم من المهدي للهادي،وأشهد على نفسه بذلك جماعة من الفضلاء، منهم السيد أحمد بن داود بن يحيى بن الحسين، والفقيه محمد بن صالح الآنسي، وبنوا على أنه يتولى خطبة الجمعة، ويذكر ذلك ويصرح به وخرجوا من تلك الدار وتفرقوا منها على ما ذكر، فلما فشى الخبر وساء كثير من الناس ممن له نفار عن الإمام الهادي وكراهته لقوة شوكته كالقضاة آل الدواري، احتالوا في بعض ما أبرمه من ذلك، على يد رجل يقال له: ابن مكابر، يسعى في ذلك وكان من أهل حلاوة اللسان، والإمعان في الخداع، والمهارة في المكر، حتى شوش قلب المهدي، وثبطه عن ذلك، فانتظر لموعده وتولى الصلاة فلم يحضر بل أقام في المطهر حتى كاد الوقت يفوت، فصعد الهادي المنبر، وتولى الخطبة والصلاة، وحين فهم ذلك المهدي، خرج من مطهره، ودخل صلى مع الناس.(1/96)
روينا ذلك كله بأسانيد صحيحه، وروايات صريحة، عن العدول الثقات، منهم والدي قدس الله روحه، ومنهم رجل موثوق به من الفقهاء، آل أبي الرجال، يرفعه إلى الفقيه محمد بن صالح، ومنهم حي الإمام المتوكل الكل منهم ساق في روايته وفيها اختلاف، ويتحصل مما اتفقوا عليه ما ذكر إلا المتوكل فإنه لم يروِ التسليم، بل التواطؤ عليه من طريقة (أخذنا نسبة) التعبير إلى ابن مكابر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولم يزل الهادي والمهدي مصطحبين متواصلين متجاملين متراحمين، تدور بينهما مكاتبة ومراسلة، والمهدي بعد ذلك الموقف كالمنتحي، وإن لم يظهر ذلك ولا يقطع يده عن التصرفات بالكلية بل ترك التلقب بأمير المؤمنين، وطوى ذلك من علامته، وإذا عرض عليه أحد ممن قد أجاب الهادي وبايعه، أن ينحرف إليه أبى ذلك، وإذا خاض في صلح بين القبائل المتعادين وصعب الأمر عليه صرفهم إلى الهادي، وإذا طعن أحد على الهادي ذب عنه وأجاب على الطاعن، كما كان فيه في شأن أحمد بن قاسم الشامي، وكان من شيعة الهادي، ثم نفر (ولفق اعتراضات) مناقشاً في السيرة، قضا بذلك منه عدم صلاح السريرة ومر على المهدي كالمتحف له بذلك، فأجاب عن اعتراضه ولم يطلعها واحداً واحداً وانقلب الشامي من عنده خائباً.
ولما توفي الهادي عزا أولاده فيه، وتألم لذهابه ورقم في أول تعزيته الآية الكريمة: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَانُ وُدًّا}[مريم: 96].(1/97)
وكان إذا عنَّ ذكره له في كتبه يقول: قدسَّ الله روحه ونورَّ ضريحه، وقدم إليه والدي أكرم الله نزله وهو بناحية لاعة بعد موت والده الهادي، فسلم له ما تركه من الحصون بناحية اليمن، واستشاره في الديون التي مات وهي عليه، استدانها لبيت المال، فأمر قبائل خولان بتسليم واجبهم لقضائها رحمهم الله تعالى أجمعين ورفع درجتهم في عليين وجمع بيننا وبينهم في دار النعيم وجواره الكريم.
الضرب الثاني: مما يبطل إمامة الإمام هو ما يتوقف على اختياره، ولا يزول معه التمكن من التصرف كالكفر والفسق.
قال الإمام يحيى: فإذا وقع من الإمام على جهة التعمد للعصيان، بطلت إمامته لانعقاد الإجماع من أئمة العترة والفقهاء، على أن الإمام لا يجوز أن يكون كافراً ولا فاسقاً، واستظهر عليه بتبرأ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من خالد بن الوليد بقتله بني جذيمة، وما كان من علي -عليه السلام- في أمر ابن عباس، لما ولاه الحجاز فاخذ ما له، وأنكر عليه غاية الإنكار، ووبخه غاية التوبيخ، لما خان في عمالته.
قلت: المشهور أن ذلك كان في توليه على بعض الأمصار في العراق.
قال -عليه السلام-: وما كان من علي -عليه السلام- في حق القعقاع برسوله، والمغيرة بن شعبة، من الإنكار عليهما، لما خانا في عمالتهما، وأخذاها ولحقا بمعاوية، قال: فإذا كانت ولاية العمال تبطل بالفسق فهكذا حال الإمام تبطل ولايته مع الكفر والفسق أولى وأحق.(1/98)
وأعلم أن الفسق (ينقسم) إلى باطن وظاهر، قال المهدي: فإن كان باطناً لم ينحل به عقد الإمامة، قال: لأنه قد جاز العقد لمن يجوز أن يكون باطنه الفسق وكذلك إذا حدث ولم يعلموه.
قلت: هذا الكلام قلق فإن أراد أنَّ الذي فسق باطناً، إمامته صحيحة غير باطلة ولا ذاهبة حقيقة، وفي نفس الأمر نجيب إلى أنه بنفسه يجوز له أن يورد ويصدر ويتصرف، كما لو لم يكن كذلك فهذا بعيد، وما (هو) حينئذٍ إلا ظالم مريد جمع إلى فسقه المبطل لحقه التصرفات العظيمة الذي هو الآن ليس من أهلها ولا بمحل لها.
وإن أراد أنه بعد ذلك باق على الإمامة في ظاهر الأمر وفي حق الأمة بحيث أنه لا جناح عليهم في طاعته ومتابعته والتزام أوامره ونواهيه، إذ ليسوا متعبدين بما غاب عنهم، فهذا صحيح لا نزاع فيه، إلا أنه لا يعد مثبتاً لإمامته ومانعاً من بطلانها في نفس الأمر كما في من عقد له والظاهر العدالة وهو في الباطن فاسق.
قال الراوي: إذا كانت معصيته سراً لم يطلع عليها، فلا تعود إمامته إلا بتجديد العقد عند القائلين به، لكن ليس عليه أن يطلعهم على فسقه وبطلان إمامته بل القصد تجديد العقد، ولو أوهم أنه أراد بتجديده الاحتياط والتأكيد، بل لا يجوز أن يخبرهم بأنه عصا، وعلى القول بأن المعتبر هو الدعوة فإنه إذا تاب من تلك المعصية الباطنة تعود إمامته حيث كان باقياً على التجرد للقيام بأمر الأمة.(1/99)
قال المهدي: وإن كان فسقه ظاهراً فاختلف الناس في ذلك، فالجمهور من المعتزلة والزيدية وهو مذهب الشافعي-رضى الله عنه-، أنه يخرج بذلك عن كونه إماماً، كما لا يجوز ابتداء العقد له، وهو الذي رواه العراقيون عن أبي حنيفة، وأنكروا أن يكون مذهبه جواز إمامة الفاسق.
وحكى عن ابن الملاحمي من معتزلة خراسان، وأهل ما وراء النهر: إنه لا يعزل بالفسق الظاهر وأنه يجوز العقد للفاسق.
ولمحمد بن الحسن قولان في بطلان ولايته بالفسق، واحتج -عليه السلام- على بطلانها بقوله تعالى: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }[البقرة: 124]وقرر الاحتجاج بها بما أمكن.
وعندي أن الاحتجاج بها ضعيف على القول بأن المسألة قطعية، واحتج بأن الإمامة إن ثبتت بالنص فلا يجوز أن ينص الله على فاسق ويأمر بالاقتداء به، وإن ثبتت بالاختيار فلا يجوز للمختارين اختيار من لا يثقون بدينه، لأنهم باختياره حكموه في دماء الناس وأموالهم.
قلت: وأهمل -رحمه الله تعالى- ما إذا ثبتت بالدعوة، فيراد وأن تثبت بالدعوة لم يجز لأحد أن يجيب دعوته ولا يعتبرها ولا يلبي نداه:
وكيف يقوم الظل والعود أعوج
تنبيه: إذا تاب من كفره أو فسقه هل تعود إمامته وولايته أو لا؟.
قال الإمام يحيى: الذي عليه أئمة العترة والفقهاء أن إمامته تعود عليه، وحكى عن أبي العباس والإمامية، إنها لا تعود إليه أبداً ولا يصلح لها بحال، قال: والمختار أنها تعود بالتوبة، كما هو رأي الأئمة والمعتزلة والفقهاء كما يزول بالتوبة الشرك وهو أعظم المعاصي.(1/100)