ويقال فيهم خلفاء الله في أرضه، وكلام جار الله شعر بجوازه، لأن المراد أن الله استخلفهم على الملك كمن استخلفه سلطانُ على بلد من بلاده وهو المراد بقوله تعالى في آدم -عليه السلام-: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً }[البقرة: 30] وفي داود -عليه السلام-{يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ }[ص: 26]هـ والنووي حكى الخلاف في ذلك، بأن قال جوَّزه بعضهم بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ }[الأنعام: 165]ومنعه الجمهور حكاه عن الماوردي وروي: أن رجلاً قال لأبي بكر: يا خليفة الله، فقال: أنا خليفة محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- ه وأن عمر بن عبد العزيز أنكر على من قال له ذلك ولا يكون هذا إلا في آدم - عليه السلام -.
وداود لما ذكر فيهما. وذكر الهادي إلى الحق – عليه السلام - في (الأحكام)، أنه من كانت فيه شروط الإمامة فهو خليفة الله تعالى في أرضه.
قال: وبلغنا، عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، أنه قال: ((من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر من ذريتي فهو خليفة الله في أرضه، وخليفة كتابه، وخليفة رسوله)).(1/6)
القول في الإمامة
مذهب جمهور علماء الإسلام أنها واجبة، وحكى عن الأصم وهشام الفوطي وبعض الحشوية، وبعض المرجئة، وبعض النجدات من الخوارج، أنها لا تجب رأساً، بل إن أمكن الناس نصب إمام عدل من غير إراقة دم، ولا إثارة حرب، فحسن ولا بأس به.
وإن لم يتهيأ ذلك وقام كل واحد بأمر منزله، ومن لديه من ذي قرابة وجار، فأقام فيهم الحدود، وأجرى عليهم الأحكام، وكفى ذلك ولم يكن بهم حاجة إلى الإمام.
وأما إقامته بالسيف والحرب فلا يجوز، وحكي عن هشام الفوطي: إنه لا يجوز نصب الإمام في حال ظهور الظلمة، لما يخشى من نفورهم وتعرضهم له، وما لا يؤمن من إثارة الفتنة.
وأما مع عدم ذلك فينصب وجوباً، لإظهار شعائر الشريعة، وحكي عن الأصم، عكس هذا.
وأما النجدات من الخوارج فالحكاية عنهم متحدة بما سبق ذكره، والقائلون بالوجوب، اختلفوا فالبصرية ذهبوا إلى أنها تجب بطريق الشرع لا العقل.
وقالت الإمامية، والبلخي، والجاحظ، وأبو الحسين البصري، بل تجب عقلاً وسمعاً، وعن الإمامية عقلاً فقط، ثم اختلف هؤلاء في طريق وجوبها عقلاً.
فقالت الإمامية لكونها لطفاً، فإن المكلف إذا عرف أن هنا إماماً نُصِب لزجر من عصى، وعقوبته كان أقرب إلى فعل الطاعة، وتجنب المعصية، ممن لم يعرف ذلك.(1/7)
وقال النظام، والبلخي، وأبو الحسين البصري، طريق ذلك في أنه داخل في دفع الضرر المعلوم ووجوبه بالعقل لأن الناس مع كثرتهم، وتوفر دواعيهم إلى التعدي والظلم، لا يتكلف ذلك منهم إلا مع رئيس لهم له سلطان وأعوان، فيمتنعون لخوفهم إياه عن العدوان، ومعلوم أن في وجود السلطان وقوة شوكته، واستقامته، دفعاً لهذه المضار في الغالب .
والمختار أن وجوبها لا يعلم إلا من جهة الشرع، وأنه لا مجال للعقل هنا، وأن اللطفية واندفاع الضرر غير معلومين ولا مظنونين.
وأنه كثير مما ينعكس ذلك، فيلون كثير من المكلفين، أبعد معها من الطاعة، وينفتح كثير من المضار الدنيوية، بسبب الإمامة.
قلت: ولم يزل يختلج في الخاطر إشكالُ ما ذكره الأصحاب من أمر الوجوب، وحقيقة ظاهر كلامهم إن الوجوب على الأمة، فهل الواجب تحصيل الإمام، ووجود الإمام في الخارج فهذا غير مقدور لهم، لأنه إذا فرض أن في الأمة واحداً أو اثنين، أو ثلاثة يصلحون للإمامة، ويجمعون شروطها.
فمن الجائز أن يمتنعوا عن التأهل لها، والقيام بتكاليفها، وليس في مقدور سائر الأمة فعلهم لذلك، بل إذا امتنعوا عن ذلك ولم يسعدوا إليه، لم يكن داخلاً في إمكان سائر الأمة، ولا متصوراً من جهتهم.
وإن كان المراد أن الواجب على الأمة(ص3) في ذلك والمبالغة، والإهتمام بأمره، سواء حصل أو لم يحصل، فالعبارة مشكلة، وكان الأليق على هذا أن يقال: يجب على الأمة إبلاغ الجهد، واستفراغ الوسع في نصب الإمام.(1/8)
وليس هذه العبارة بموجودة قط في شيء من كتب علم الكلام، ولا في الفقه، وإن كان المراد: أنه يجب على من صلح للإمامة التأهل لها، إن كان واحداً ففرض عين.
وإن كانوا جماعة ففرض كفاية، ويجب على الأمة أن يعقدوا له، ويبايعوه وينصبوه، فهذا تفسير يقضى باختلاف معنى الوجوب في حق الأمة، فكان يليق أن يقال: يجب على من صلح للإمامة إن (يتأهل) لها، ويجب على سائر الأمة أن يعقدوها له ولو قبل هذا، إن لم تسعه، فإنما العقد من جماعة قليلة، وأشخاص معدودين من أهل العقد والحل، فكيف يجعل هذا واجباً على الأمة كلها.
وإن قيل: معناه إنه يجب على الأمة كافة، إجابته، وطاعته، ومتابعته، فهذا واجب آخر غير ما كُنا بصدده، فالأمر كما ترى في تحقيق معنى الوجوب، والتحقيق المرجوع إليه أن الوجوب في هذه المسألة مختلف في حق الأمة، والصالح لها يجب عليه القيام والانتصاب، بعد حصول من يعقدها له، إذا قلنا طريقها العقد، ومع ظنُّ الإجابة إن قلنا طريقها الدعوة، فهذا واجب على الصالح للإمامة، والواجب على المعتبر من خير الأمة، وأهل الحل والعقد منهم أن ينصبوه ويختاروه، وهو واجب كفاية، حيث كان الصالحون لذلك أكثر مما يحتاج إليه فيه.
والواجب على سائر الأمة أن يسلكوا طريقهم، ويتبعوا آثارهم، ويتابعوهم في ذلك، هذا حيث جعلنا طريقها العقد والاختيار.
وإن جعلنا طريقها الدعوة، فالواجب على الأمة إجابة الداعي الكامل، وطاعته،ومتابعته لا غير. والله عز وجل أعلم ه.(1/9)
وقد قيل: المهدي في مذهب الإمامة مرجعه، إلى أن الواجب في هذا هو على الله سبحانه، وهو أن يجعل لنا إماماً ينصُّ عليه، ويُعْلِمنا بوجوب طاعته، كما أنه يجب أن يكلِّفنا بالشرعيات، التي هي لطف.
فإذا عرفت ذلك: فأحسن ما يحمل عليه القول بوجوب الإمامة، أنه يجب على المسلمين عموماً الإهتمام بأمرها، والنظر في تحصيلها، على سبيل الجملة.
وأما التفصيل فعلى حسبما ذكرناه آنفاً، والقصد أن يجري الناس على أسلوب ما كان عليه الصحابة -رضى الله عنهم- بعد موت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من الاهتمام الكلي، والفزع إلى نصب الإمام وإيثاره على تجهيزه -صلى الله عليه وآله وسلم- مع كونه من أهم الأمور، ومباشرة ذلك ينهى من الأعيان، والكبراء، وأهل الحل والعقد، وسائر الناس فرضهم العمل بما أبرموه واعتمدوه.
فهذا هو المعنى والمراد، ولا مشاجة في العبارة. والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم إنَّا نعود إلى تتميم الكلام، فيما كنا بصدده. فنقول: قد حققنا المذاهب في وجوب الإمام.
فأما المنكرون لوجوبها، فاحتجوا بأن الإمام بمنزلة الوكيل للأمة، وللموكَّل أن يتولى بنفسه ما وُكِلَّ فيه من دون الوكيل.
وهذا احتجاج ركيك وليس الإمام بوكيل للأمة، ولا خليفة عنهم، وإنما هو خلفية لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-. وكمأمور لله تعالى، وأمين له، ومؤتمن على الدماء والأموال والأديان، وبإقامة الأدلة على وجوب الإمامة عليه يسقط هذا القول ويبين بطلانه.
وأما ذكر ما يحتج به القائلون، بأن وجوبها إنما يعرف بالعقل وحده، فبطلانه يتبين بإقامة الحجج الشرعية السمعية.(1/10)