وكان منهم التزام ذلك العمل به ولا معنى للزوم امتثال أمره فيما أمر به إلا حيث هو في تلك (الحالة قائم) بأمر الإمامة، ولو كانت إمامته قد بطلت لذلك العارض لبطل أمره فلا يعمل بقوله ولا يعتمد عليه. والله سبحانه أعلم.
ومن هذه العوارض وقبيلها وإن لم يكن من فعل الله تعالى الأسر المأيوس فكاكه.
قال الإمام المهدي -عليه السلام-: واليأس هو غلبة الظن أنه ينقطع عمره تحت الأسر لإمارات تقتضي ذلك، قال الإمام يحيى بن حمزة -عليه السلام-: وهذا مذهب العترة، واختاره السيدان الأخوان، لأن ما ذكر بمنزله العلة التي لا يرجى زوالها فإن لم يكن مأيوساً عنه لم ينعزل ويصير بمنزلة مرجو الزوال. وهل العبرة باليأس به أو بالناس؟، الأظهر أن العبرة بهم في ذلك لا به، فإن التكليف في نصب غيره يتعلق بهم لا به، والنظر في ذلك إليهم لا إليه، فربما يتعذر عليهم فهم ما لديه، فإذا قام غيره بعد الإياس منه ثم اتفق تخلصه من الأسر.
قال الإمام يحيى بن حمزة -عليه السلام-: فالمحكي عن الإمامين القاسم، والناصر، إن على من قام تسليم الأمر إلى الأفضل فيهما، فإن أبى كان مخطئاً فاسقاً هكذا لفظه، حكاه الإمام يحيى عنهما، وفيه انضراب واختلال، لا يخفى على المتأمل، والذي حكاه القاضي عبد الله الدواري عنهما -عليهما السلام: إن المفضول يسلم الأمر للأفضل وإن لم يُسَلِّم فسق، وهذه عبارة قويمة وحكاية مستقيمة.
قال: وحكي عن بعض الزيدية: إن الثاني أحق لتحمله الأعباء، وصبره على المشاق في مجاهدة أعداء الله تعالى.(1/91)


قال: وهو محكى عن زين العابدين، والنفس الزكية، وهو رأي السيدين الأخوين.
قال: وهو المختار، لأن الثاني قد صار أفضل من الأول المأسور الذي قد تقادم عهده وعقدت الأمة لمن قام بالأمر بعده.
فلا يجوز نقض ذلك لأنه وقع في حال يجوز منه وينعقد كما لا يبطل نكاح الأمة بوجدان الطول على نكاح الحرة، وكذا من أخذ الزكاة وهو فقير ثم حصل له الغنى من بعد فإنه لا يلزمه دفع ما كان أخذ منها.
قلت: ولا شك في قوة هذا القول، لأن قيام الثاني كان بعد بطلان إمامة الأول وزوالها، وهو كما لو كان ذلك المأسور لم يدع مع كماله.
فائدة: اتفق هذا العارض وهو الأسر للإمام العظيم المهدي لدين الله إبراهيم بن تاج الدين وكان من أقمار الأئمة الأطهار وأسره سلطان اليمن بأفق حول ذمار، وكان -رحمه الله- من أهل الجد والاجتهاد، في إقامة راية الجهاد، وحط على صنعاء مرة بعد أخرى، واشتهر أن سبب أسره وغلبة السلطان عليه خذلان الأمير داود بن الإمام المنصور بالله له، وأنه خدعه وطمع فيما بذل له من السلطان، وإلى ذلك عرَّض الإمام في قصيدة له ذكر فيها قصة أسره وما كان من أمره، حتى قال:
حتى إذا خان بعض الأهل موثقه .... وغره فضة السلطان والذهب
ولم يقم أحد بالأمر في حياته بل انتظروا أمره، وكان من أنصاره وأعوانه ونبلاء زمنه وأعيانه، الأمير الشهير، الجليل الخطير، المؤيد بن أحمد، والإمام المتوكل على الله المطهر بن يحيى.(1/92)


ولما دنت منه الوفاة أوصى إليهما، ورقم وصيته بخط يده، في كتاب كان معه بلغ به إليهما واستغاث بهما في تنفيذ وصاياه، حتى كان آخر ما رقمه في وصيته: يا مؤيداه، يا مؤيداه، يا مؤيداه، يا مطهراه، يا مطهراه، يا مطهراه.
وقام بعده بالأمر الإمام المتوكل المذكور فبورك للدين والمسلمين فيه، وأمر أهل الجهات الخولانية بتسليم الزكوات، إلى الأمير المؤيد، لقضى ديون الإمام إبراهيم، واتفق هذا العارض للإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى المرتضى، فأسر في قصة يوم معبر، وقد جرى له قريب من الأسر في بيت بوس، وخلص منه فوراً، فأسر من خروجه في أسره الثاني، وظن أنه يشدون فيه وحينئذ فزع طائفة من أهل الحل والعقد، إلى والدنا الإمام الهادي لدين الله -عليه السلام.
منهم: القاضي العلامة محمد بن حمزة بن مظفر، ذي المصنفات المتعددة، في علم التفسير، فإنه جد في ذلك واجتهد، وكانت له فيه مساع مشكورة، وعنايات مأثورة، وكتب ورسائل في الأفاق منشورة، وتابعه وتبايعه أعيان عصره وعلماء دهره، كالسيد فقيه أهل البيت أحمد بن داود وهو ووالده ممن حضر قيام المنصور علي بن صلاح مع القاضي عبد الله بن حسن الدواري ثم ندما فيما بلغنا، وأظهرا التوبة، وكالسيد محمد بن الداعي أحمد بن علي بن أبي الفتح، وكان آية في زمانه، بلغ أنه كان يحي الليل كله بركعتين اثنتين يتلو فيهما القرآن كله.(1/93)


والسيد محمد بن جبريل من أولاد الإمام الداعي، وله تصنيف في آيات الأحكام وغير (ها)ؤلاء من السادة آل يحيى وغيرهم، وكالفقيه العلامة جبل العلم، يوسف بن أحمد بن عثمان، والقاضي الأفضل أحمد بن سليمان النجري، وكان من أعيان الزمان، والفقيه الفاضل ذي الكرامات الباهرات، محمد بن صالح الآنسي، والفقيه الأعلم الأوحد، الأعبد، محمد بن ناجي الحملاني وإخوته، وكثير من غيرهم، وممن بايعه في مبتدأ الأمر السيدان الأوحدان، الأخوان الهادي، ومحمد، ابنا إبراهيم بن علي المرتضى، ومن شواهد ذلك رسالة أنشئها السيد الهادي في تفضيله وذكر كماله، أولها: الحمد لله.
عليك من إمام أمة، وكاشف غمة، رفع فيها من شأنه، وقضى بعلو مكانه، وكتاب كتبه السيد محمد بخط يده، وجهه إلى الإمام جواباً عن كتاب الإمام إليه وقفنا عليه.
وفيه من التعظيم والتبجيل، والثناء الجميل ما لا يقدر قدره، وهو مفتتح بأبيات قد ذهب أولها، والباقي منها يصف فيه الكتاب الوارد إليه:
فضضت ختامه فأفاض دمعي .... وفض الفهم من قلب جريح
فلو قد كنت ميتاً ثم نودي .... به لأجبت من تحت الضريح
فيا عجباه من طرس بديع .... حباه الله معجزة المسيح
وآخر تلك الأبيات الرائقة:
أمير المؤمنين بقيت فينا .... على رغم العداة بقاء نوح
ولا زالت تقاد إليك طوعاً .... رقاب العاصيات من الفتوح(1/94)


ثم اتفق بعد ذلك خروج الإمام المهدي وفكاكه من الأسر، وكانت للهادي علي بن المؤيد في ذلك عناية، وبعد خروجه جاء قاصداً إلى الإمام الهادي إلى حتى وافاه بوادي فللة، حال نهوضه إلى صعدة لافتتاحها، بعناية من الأمراء آل زيد فاتفقا وخطب كل منهما، وكانت خطبة الهادي منطوية على التهنئة له بخلوصه من السجن، وخروجه منه، وختمها بأبيات رائية الروي بلغية مضمنة للبيت المشهور، وهو:
وما جئت حتى أيس الناس أن تجي .... وسميت منظوراً وجئت على قدر(1/95)

19 / 60
ع
En
A+
A-