وأما كلام الشيخين، فقد رده المهدي -عليه السلام- بأنه لا وجه للقرعة هنا، إذا الحق للعاقدين فالخيار إليهم في المنصب وليس للمنصوب حق فلا يقاس على الأحكام التي اعتبرت القرعة فيها في مسائل النكاح والعتاق والقسمة، فإن وجهها فيها المساواة بين أهل الحق والحق هاهنا لأهل النصب عند معتبره.
وأما من رجح الهاشمي على غيره من المعتزلة فكلامه قوي لوجهين: أحدهما قربه من رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو مرجح ظاهر للإمامة أعرض عنه، فعلى كل واحد من الأمرين ويجب معرفته إذا كان ظاهراً، إما بالموافقة أو بالتبرء منه والإعراض عن أمره.
وقال القاضي عبد الله بن حسن الدواري: إن معرفة شرائط الإمامة، ومعرفة إمام الزمان واجب على كل مكلف من الآدميين، إذ على كل مكلف تكليف يتعلق بالإمامة والإمام وهذا في حق الذكور، فأما المرأة فإن كانت عليها زكاة واجبة أو التزمت أمراً للإمام أن يلزمها إياه وجبت عليها معرفة إمامته وشرائط الإمامة وإلا لم يجب عليها، إذ لا تكليف عليها يتعلق بذلك، وما لا يتم الواجب إلا به يكون واجباً كوجوبه، ويدل على ذلك الإجماع أيضاً، وقوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((تمسكوا بطاعة أئمتكم ولا تخالفوهم ، فإن طاعتهم طاعة الله، ومعصيتهم معصية الله)) والتمسك بالطاعة فرع على معرفة الإمام.
تنبيه: مضمونه أنه هل يجب على كل مكلف العلم اليقين في ذلك أو يجب عليه العلم بما وجد السبيل إلى علمه، عند بلوغ دعوة الإمام إليه ويقلد فيما لا سبيل إليه إلى العلم به في تلك الحال من الشرائط وإن انكتم العلم بذلك من بعد؟.(1/81)


قال القاضي عبد الله بن حسن الدواري: الظاهر من كلام العدلية أنه لا بد له من العلم بجميع ذلك، ولا يسوغ له التقليد بشيئ منه فما علمه بالخبرة فهي كافية في ذلك وما لم يعلمه بالخبرة يطلب العلم به بالتواتر، وعليه شدة البحث وهو معذور في التزام حكم الإمامة، قبل العلم بما ذكرناه.
وقال الفقيه حميد وغيره: لا بد من العلم بالشرائط الا كونه مجتهداً فيكفي التقليد فيه.
وعن بعضهم: وكذلك التدبير، وجودة الرأي يسوغ التقليد فيه إذ ليس كل مكلف يتمكن من عرفان الأراء ومصادرها ومواردها، وعن بعضهم جواز التقليد في شرائط الإمامة فيه وإن أمكن بعد ذلك العلم بالبحث وغيره.
قال القاضي عبد الله الدواري: والأصح أنه لا بد من العلم اليقين بإجتماع الشرائط، وأن على كل مكلف تحصيل العلم بذلك، بالخبرة أو البحث وعليه الرحلة إلى الإمام، حيث كان يختبر حاله وإن كان ممن يمكنه الاختبار أو الرحلة إلى عدد يخبرونه عن حاله خبراً متواتراً، وإن لم يمكن من الإختبار ولا أخبره عدد التواتر باجتماع الشرائط ففرض الإمامة ساقط عنه، هذا حاصل ما وقفنا عليه من كلام الأصحاب في هذا الباب.(1/82)


وأقول وبالله التوفيق: إن القول بأنه يلزم المكلف من قارئ وأمي وحاذق وذي بله ومميز ومن (لا)تمييز له، وأن يعلم علماً يقيناً أن الداعي قد جمع الشرائط المعتبرة في الإمامة شرطاً شرطاً، وأنه يلزمه ما يتوقف هذا عليه من العلم بلزوم شرائطها، وأنه لا بد منها، وأنه يلزمه بالتوقف كلما ذكر عليه من وجوب الإمامة، وأنه لا بد منها وعموم التكليف بما هو من الغلو ومجاوزة الحد وارتكاب الشطط واقتحام المسلك الوعر والإعتساف، الذي لا يخفى على أولي الإنصاف، ولعمري إن تكليف العوام بذلك من قبيل تكليف ما لا يطاق، وأنه خارج عن وسعهم وقدرتهم، وأنه لا يبلغ إلى ذلك ولا إلى ما هو دونه طوقهم وقواهم، وأنه لا يبعد عن أن يكون كتكليف (الأعمى) بإعجام مصحف أو رقم كتاب، وأنه لو أخذ عالم من العلماء المختارين يلقن قاصياً أدلة هذه المسائل، ويلقيها في سمعه ويشرحها له أعواماً طويلاً أمدها، عظيماً مددها، ما بلغ إليها مزيد من ذلك ولا أدركه وكان كسوم بعض الأنعام من أن يتعلم فيصير من الأعلام، ولو كان هذا واجباً متحتماً لكان العوام محكوم عليهم بالإخلال بواجب الإمامة، فإنهم ليسوا في طرف منها ولا وسط وأنهم آثمون معاقبون مفرطون، وإنهم في طاعتهم للأئمة واتباعهم ومشايعتهم والمجاهدة بين أيديهم، والإئتمار بأوامرهم مخطئون، وللمنكر مرتكبون، ولكان فرض الإمام نفسه وفرض العلماء والفضلاء أن ينكروا عليهم إجابتهم للإمام وطاعتهم له، وتسليم الحقوق إليه والمجاهدة بين يديه، فليس للإمام أن يقهرهم على المنكر، ولا لأحد من علماء الإسلام أن يكتم ما علمه الله من ذلك.(1/83)


فمن كتم علماً علمه الله تعالى إياه ألجم بلجام من نار، وأقل ما يلزم من ذلك أن يتبينوا ما يجب عليهم مما ذكر ولم يؤثر عن أحد من الأئمة ولا من علماء الأمة، أنه انتصب في سوق أو جامع أو مجمع ليشعر الإمامة، وإحرازه إياها، وجمعه لنصابها، وأنه لا يجوز لهم اتباعه واستماعه، وطاعته ومحبته، وامتثال أوامره ونواهيه، حتى يحصل العلم بما ذكرناه، وكان يلزم في العوام أن عجزوا عن ذلك (ولم) يتمكنوا منه، أن يسقط عنهم تكليف الإمامة، وأن لا يجوز للإمام أن يدعوهم، ولا أن يقهرهم على ما يجب له، من تسليم الحقوق وامتثال الأوامر، وأن لهم أن يعتذروا بأنه لم يحصل لهم العلم اليقين بإمامته، وعليه أن يقبل ويعذرهم فلا يدعوهم ولا يقهرهم، وهذه إلزامات لازمة فإن التزمها أصحابنا فقد اقتحموا من المحذورات جانباً، وكانوا ممن لم يجد إلا الأسنة مركباً، وإن قهقروا عنها وحادوا منها لم يكن لهم بد من الإعتراف بأن تحصيل العلم اليقين ليس من فروض العوام إن سلم أنه من فرض المميزين.(1/84)


والذي يتوجه ويكون سليماً من الشطط والأود أنَّ معرفة الشرائط، ووجه اشتراطها أن يعتمدوا معرفة إحراز الإمام كيفياتها واحتوائه عليها، إنما هو فرض جهابذة النقد وأرباب الحل والعقد، ومن هم في رتبة النصب والاختيار، ويعزل عن مهاوي الشك (…..ص30) وإن فرض العوام أن يقتدوا بالعلماء الأعلام، فمن بلغهم دعوته، وعرفوا من علماء زمانهم ومكانهم إجابته والتزام طاعته لزمهم أن يجيبوه ويستمعوه ويطيعوه ويتبعوه، ويعتمدوا في أمر دينهم عليه، ويسلموا ما عليهم من الحقوق إليه، وينهضوا للجهاد بين يديه ويأخذوا دينهم وما يحل لهم وما يحرم عليهم من لدنه، وإن اختلف علماء زمانهم في أمره كانوا مع من يعرفون أن علمه أرجح ودينه أصلح، وإن كانوا في درجه واحدة من العلم والدين اعتمدوا الأكثر وإن استووا من كل وجه، كان فرضهم التوقف، وهذا هو المذهب العدل والقول الفصل، وليس الإمامة وإن عظم شأنها، وارتفع مكانها، تساوي ولا تداني النبوة، ولا هي في اشتراط العلم اليقين كمثلها ولا في محلها.(1/85)

17 / 60
ع
En
A+
A-