أما الطرف الأول: فلا كلام أنه يجوز خلو الزمان، عن حصول الإمام وانتصابه للإمامة، وذلك أمر متحقق ويرد على قاعدة أصحابنا، وظاهر إطلاقهم في وجوب الإمامة على الأمة، أن يقال يلزم من عدم تحصيل الإمامة وثبوتها إطباق الأمة على الإخلال بالواجب وهم معصومون عن ذلك، وهو سؤال متوجه، لكنّا قد قدمنا في ذلك هذا المعنى ما يرفع الإشكال ويمنع من قدح السؤال.
وقال في (الإنتصار): المحكي عن الأئمة العترة والزيدية والمعتزلة والفقهاء، أنه يجوز خلو الزمان عن الأئمة عقلاً، لكن الشرع يمنع من ذلك فلا يجوز على هذا خلو الزمان عن الأئمة من جهة الشرع، وحكي عن الإمامية والبلخية أنه لا يجوز خلو الزمان عن الأئمة عقلاً ولا شرعاً، وذهب ضرار والأصم إلى جواز خلو الزمان عن الأئمة مع سلامة الأحوال، وإلى هذا ذهبت فرقة من الخوارج.
قال: والمختار جواز خلو الزمان عن الإمام بدليل جواز خلوه عن الأنبياء، فالفترة بين موسى وعيسى، على ما حكي ألف سنة، والرسول
-صلى الله عليه وآله وسلم- بينه وبين عيسى -عليه السلام- ألف سنة، وهذا في الأئمة أولى وأحق.(1/76)
وأما الطرف الثاني: وهو الخلو عمن يصلح للإمامة، فالذي عليه أهل العدل، وجمهور المتكلمين المنع من ذلك، قال القاضي عبد الله بن حسن الدواري: والخلاف في ذلك مع من لا يوجب الإمامة، احتج المانعون من خلو الزمان عن صالح للإمامة بجميع الشروط بأن علينا تكاليف لا تصلح تأديتها إلا مع وجود الإمام كإقامة الجمعات والحدود ونحو ذلك،فيجب على الله تعالى أن لا يخلي الزمان عن صالح للإمامة، إذ لا يتم لنا تأدية ما كلفناه إلا مع وجود الإمام.
قال الدواري: فما كان من الشروط من فعل الله كالمنصب والعقل ونحوهما وجب على الله تعالى فعله، وما كان منها اكتسابياً فالواجب عليه تعالى توفير الدواعي لا تحصيله.
قلت: في هذا الاستدلال من الركة والضعف والخطل ما لا يخفى على ذي ألمعية وحسن روية، وهل الشروط التي تتوقف عليها الواجبات وهي من فعل الله تعالى يجب على الله أن يفعلها ويحصلها!!؟ هذا مما لا قائل به، فإن الله سبحانه وتعالى أوجب الواجبات، وهي تتوقف على العقل والبلوغ، وما كان منها مختصاً بالذكور كالجهاد ونحوه.
فيتوقف على الذكورة، ولا يقال: إنه يجب على الله تعالى فعل هذه الشروط ليتم التكليف، والمكلف فيما كان مشروطاً من جهة الله ومن فعله في فسحة أن خلقها الله تعالى له بعد ما كلفه وإلا سقط عنه التكليف، والله سبحانه لا يجب عليه أن يفعل ما يتم به التكليف ولا قائل بذلك.
ثم أنه أورد على نفسه سؤالاً فقال: إن قيل إذا كان الوجه ما ذكرتم، فقولوا: لا يجوز خلو الزمان عن إمام، لأن القيام بما ذكرتم لا يتم إلا بوجود إمام لا بوجود من يصلح فقط.(1/77)
قلنا: لا يجب ذلك بل يجب على الله تعالى أن يجعله على أوصاف الإمامة، التي لا يقدر عليها إلا هو ويوفر دواعيه إلى اكتساب الأوصاف التي لا بد منها في ثبوت الإمامة الصحيحة.
ثم من يجعل طريق الإمامة الدعوة والخروج فالواجب عليه الدعاء، وعلى القول بالعقد يجب العقد على العاقدين وعلى غيرهم الرضا.
ويتفرع على هذه الفائدة خلاف وقع بين الشيخين، قال أبو هاشم: لا يجوز أن يخلو الزمان عن قرشي جامع الشرائط، فهذا الشرط وهو شرط المنصب لا بد من حصوله كسابق الشروط، وبه قال قاضي القضاة.
وقال الشيخ أبو علي: لا، بل يجوز خلو الزمان عن حصول المنصب، وبه قال الغزالي وغيره، وحينئذ تجوز الإمامة في غير قرشي كما يجوز التيمم عند عدم الماء، وتوقف أبو عبد الله البصري، وقد احتج في (الغايات) لتصحيح قول أبي هاشم احتجاجاً بسيطاً.
ولا شك أنه الأرجح على قاعدتهم، لأنهم أوجبوا أن لا يخلو الزمان عن صالح للإمامة كامل الشرائط فالمنصب أحد الشرائط، ويتوقف عليه الصلاح المذكور، ولو قيل بما قاله أبو علي للزم مثل ذلك في سائر الشروط، فيجوز الخلو عن شرط الاجتهاد وعن شرط الشجاعة أو غيرهما.
ويجوز حينئذ إمامة المقلد، وإمامة من ليس بشجاع كالتيمم مع الوضوء، إلا أن أبا علي فرق فقال: المقصود بقيام الإمام لا يفوت بوفات المنصب، فتصح الإمامة من دونه فجاز اختلاله بخلاف غيره من الشروط كالعقل والعدالة.
تنبيه: ويأتي على مذهب أصحابنا وقاعدتهم أنه لا يجوز خلو الزمان عن فاطمي، وقد صرح به في بعض تعاليق الشرح.(1/78)
الفائدة الثانية: إذا ثبت أنه لا يجوز خلو الزمان عن صالح للإمامة، فهل يجوز أن يوجد في وقت واحد جماعة يصلحون للإمامة؟ قيل: هذا لا ينبغي أن يقع فيه منازعة، ولا يفتقر إلى مواقعة، وأي مانع يمنع من ذلك من جهة القدرة والحكمة، وقال عباد بن سليمان والإمامية: لا يجوز ذلك.
أما الإمامية فبنوا على أصلهم أن طريقها النص، وأنه لا نص إلا على واحد فواحد، وفي الحقيقة أنه لا خلاف بيننا وبينهم إلا في قاعدتهم التي بنو عليها، ولا يخالفون في جواز وجود جماعة فاطميين مجتهدين عدول، أهل تدبير وشجاعة، وسخى وفضل، ولا يعدون مخالفين هنا.
وأما عباد بن سليمان فالذي دعاه إلى هذا المذهب الضعيف، أنه لو وجد جماعة صالحون لأدى ذلك إلى أن يختار واحد منهم لغير مرجح في اختياره ولا يصح ترجيح من غير مرجح.
ولا معنى لما ذكره: وقد جعل عمر الشورى بين ستة فقضى بصلاحيتهم كلهم، ولم ينكر عليه والمرجح للإمامة أحد الجماعة الصالحين، اختيار العاقدين له، وعند معتبري الدعوة سبقه بها، واختبار العاقدين لواحد من جملة جماعة غير صالحين غير مستبدع ولا مستنكر، فإن العادل المختار إذا أعنت له أمور مستوية، في تعلق الداعي وانتفاء الصارف اختار أحدها من غير مرجح، كمن يأكل أحد رغفان مستوية، وواحدة من رمانات (لا تفاضل بينها)، وكسالك إحدى طريقين مستويين في الإتصال إلى الجهة المقصودة في القرب والسهولة وانتقاء الشوائب.(1/79)
فرع: إذا فرض وجود جماعة صالحين كما ذكر ما يكون فرض الأمة في حقهم، ومن يتعين للقيام بأعباء الأمة منهم، أما معتبروا الدعوة فالعبرة عندهم لمن دعا منهم وترشح لذلك.
فأما معتبروا العقد فمن أرسل الله تعالى العاقدين إليه، ونصبوه كان المعول عليه كما ذكر آنفاً، لكن قال الشيخان أبو علي، وأبو هاشم: لا يعمدوا إلى واحد فيختاروه بل يقرع بينهم حيث كانوا مستوين في الخصال المعتبرة، وقال بعض المعتزلة: بل يكون الهاشمي أولى من سائر بطون قريش حيث كان الصالحون لهذا الأمر هاشمياً وغيره.
وقال ضرار بن عمر: بل العجمي أولى من العربي، والذليل من العزيز ليكون عزله إذا أحدث ما لا يرضاه المسلمون أيسر وأسهل، ولا تعويل على ما ذكره، لأنه بنى على قاعدة منهارة وهو صلاحية الإمامة في الناس عموماً، ولأن الذي يحدثه الإمام إذا كان فسقاً انعزل بذلك وبطلت ولايته من دون عزل عازل فتخلفهم عنه كافٍ وليس يعتبر العزل عن التولية في الإمام كالحاكم.
هكذا في (الغايات) وعندي أن الاحتجاج على ضرار بما ذكره لا يطابق مراد(ه) بما ذكره، لأن قصده إمكان عزله، وسهولة خلعه عن مرتبته، وتقطيع علائقه، لا نفس بطلان إمامته.
لكن قوله غني عن الإبطال، ولا ينبغي فيه توسيع المقال، ولو كان علته العليلة كما ذكره لاقتضت أن يجعل الإمام من أطراف الناس وأدنيائهم، لأن إبطال أمره وقت الحاجة إليه أيسر هذا ما لا ينبغي أن يقول به مميز. والله أعلم.(1/80)