قلت: والعجب منه حيث قضى بأن الإجماع السكوتي في المسائل القطعية يكون قطعياً، مع احتمال كون السكوت المشار إليه لغير ما ذكره، والحوامل الممكنة كثيرة، وهذا من المجازفة والغلو في أمر الإجماع والإعتساف، واحتجوا بما روي عنه -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما )).
وبما روي عنه -صلى الله عليه وآله وسلم: ((من دعى إلى نفسه أو إلى غيره وهناك إمام فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)) وهذان الخبران دلالتهما صريحة إلا أنهما آحاديان والمسألة قطعية، واحتجوا بأن الأمة بعد الصدر الأول حالاً بعد حال لم يقيموا إلا واحداً لم يعلم منهم نصب اثنين في عصر واحد وهذا إجماع منهم وتأكيد للإجماع الأول.
ويرد عليه أن عدم فعلهم إياه لا يدل على امتناعه إنما يدل على عدم وجوبه، واحتج المحيزون له بالقياس على الأنبياء عليهم السلام، والقضاة والأوصياء، ونحو ذلك من الولايات، التي مرجعها إلى التصرف على الناس.
وعن الناصر -عليه السلام- أنه قال: لا خلاف أن الله تعالى قد بعث أنبياء في عصر واحد، وكذلك حكم الأئمة، كان إبراهيم ولوط في عصر واحد، وإسماعيل وإسحاق -عليهما السلام- في عصر واحد، وموسى وهارون -عليهما السلام- في عصر واحد، وداود وطالوت وأشمويل في عصر واحد، ويحيى وعيسى في عصر.
قلت: ولعل للمانعين أن يجيبوا بأن القياس غير صحيح، أما الأنبياء عليهم[ ] فلعصمتهم والأمن من منازعتهم ولأن ذلك بوحي من السماء، فنقطع بأنه الأصلح وأنه لا مفسدة فيه.(1/71)
وأما الأوصياء والحكام، فليس أمرهم يقضي في العادة إلى تنازع ولا تشاجر، فالقاضيان لا يزيد كل واحد منهما على أن يقضي بين المترافعين إليه بما يصح لديه، والوصيان لا يزيد حالهما في التصرف في مال الصغير، على تصرف المشتركين في مال لهما، والشركة مشروعة ولا خلل فيها.
وأما أمر الإمامين فإنه مظنة للتشاجر والتفاخر ولا عصمة مانعة، وليست التصرفات المقصودة منها بيسيره، ولا مقصورة على أشياء معينة.
وأقول وبالله التوفيق: إني لم أزل أنظر في هذه المسألة، وأتأمل الأمر فيها، برهة من الزمان، فإذا نظرت إلى الأمر المقصود بنصب الإمام من مصالح الإسلام، فمن البعيد المتعسر أن يتمكن إمام واحد من النظر في أمور المسلمين، ومصالح الدين في جميع النواحي والأقطار والبوادي والأمصار، ومن منابذة الظالمين في جميع الأوقات، وهذا أمر يعلم بالاضطرار، ولا يتهيأ فيه إنكار، وهل من قام بالديار اليمنية مثلاً يتمكن من تدبير أمور الشام، والعراق، ومصر، والهند، والصين، ونحوها؟ فإذا حكمنا بأنه لا يجوز أن يقوم في جميع الأرض غير إمام وحده، فما يكون علمه؟ وليس مبلغ قطره ولقد خبرنا هذا الأمر فوجدنا الإمام لا يكاد يحكم التصرف فيما غاب عنه، ولو مسافة يوم أو يومين مع وجود الأعوان والكفاة، فكيف بقطر تكون مسافته شهور كثيرة، ودونه البحار والمهامة والقفار، ويقوي عندي أنه لا أقل من تعدد الأئمة بالنظر إلى الأقطار المتباعدة، وأنه لا بأس بأن يقوم إمام في الديار اليمنية، وإمام آخر بالعراق، وإمام آخر بالجيل والديلم.(1/72)
وعلى هذا في غيرها فإن الذي يخاف منه التشاجر، واختلاف الآراء مأمون مع هذا التباعد القاطع للأخبار، والإطلاع للأغلب، مع كون المفروض أن كل داع إلى الله تعالى ومنخرط في سلك الأئمة الهداة، قاصداً لوجه الله تعالى، لا للملكة والرئاسة، وأن الغرض المقصود المطلوب إحياء دين الله تعالى، والنظر في مصالح المسلمين، ومنابذة الظالمين، ولقد كنت شديد العجب من غفلة الأصحاب عن هذا المعنى وللنظر فيه وتطابق آرائهم ونصوصهم في مصنفاتهم على خلافه، وردهم مذهب الناصر وما نقل عنه مع وضوح صوابه، وانكشاف وجه القوة فيه، وتمسكهم في ذلك بتلك الحجج الضئيلة والأدلة الضعيفة والدعاوي التي لا حاصل لها ولا تعويل عليها.
فلما وفق الله تعالى لتحصيل كتاب (الغايات)، والمطالعة له، وقفنا على كلام فيه، يشفي الأوام، ويشهد لمصنفه بالإصابة والإحكام، ويقضي بأن الذي وقع في أنفسنا وقع مثله في نفسه الكريمة الزكية وقضت أنظاره الوافية.(1/73)
قال -عليه السلام- ما لفظه: وأنا أقول: إنا لما علمنا العلة التي لأجلها منعوا من إمامين، وهو التشاجر عند اختلاف الرأي ونحو ذلك، وعلمنا تقاطع الديار المتباينة كالصين واليمن ونحو ذلك، بحيث يتعذر لأجل ذلك التقاطع بين الديار، وتوسط سلاطين الجور في البلدان، وضعف يد الإمام عن الإنبساط على الأقطار وتواصل شوكته فيها، فلا يبعد أن يجب نصب الإمامين والثلاثة والأربعة بحسب تباين الديار، ليحصل بذلك إقامة الأمور التي يجب نصب الإمام من أجلها في أقطار كثيرة، لتعذر إقامتها بقائم واحد في قطر واحد، وتعذر نصب إمام اليمن والياً له في الصين مع ارتفاع شوكته فيما بينهما، وتعذر المواصلة عند الاحتياج، إلى أخذ أمره ورأيه في إصدار وإيراد لعدم اتصال شوكته وتنائي الديار ومخافتها، ويتعذر ذلك في مثل أحوال زماننا هذا ومعلوم ضرورة، وإذا علم ذلك وجب علينا أن لا نعطل قطراً من أقطار المسلمين من إقامة قائم فيه تقوم فيه الأحكام التي نحتاج الإمام فيها.
قال -عليه السلام-: وإجماع الصحابة إنما كان حيث حال الإسلام على خلاف ما هو عليه الآن من الإنتشار، وإتصال شوكته، حتى صارت الجهات المتباينة لأجل إتصال شوكته ومواصلة الخليفة كالقطر الواحد، فأمكن إتصال أخبار الولاة حينئذ إلى الخليفة وإنفاذ الأوامر من جهته ومن ثم منعوا ذلك فأما في هذه الأحوال فالحق ما ذكرناه، وإلا تعطل أكثر الأقطار عن إقامة الأمور التي نحتاج الإمام فيها، وهي جلَّ أحكام الإسلام وقواعد هذا هو الحق الذي يترجح لنا في هذه المسألة.(1/74)
قلت: لله در هذا الإمام، فقد أجاد الكلام، ووفى بالمرام فيما ذكره ظاهر ظهور الشمس وعار عن الاشتباه واللبس، وقال الحاكم صاحب التفسير: وما يحكي عن بعض الزيدية، فإنما أرادوا إذا تباعدت الديار، ولم يقف أحدهما على الآخر مثلما كان من حال الهادي، والناصر عليهما السلام، وكل واحد منهما يأمر وينهي ويقيم الأحكام، حتى إذا التقيا سلم أحدهما للآخر، ويلوح من كلامه هذا استحسان هذا القول.
وقد تقدم تصريح الإمام عماد الدين والإسلام يحيى بن حمزة -عليه السلام- باختياره.
قال: والحجة عليه أن البعد يقضي بجواز ذلك لمصلحة، فإن حادثة لو وقعت في أقصى المغرب والإمام في أقصى المشرق، فتستحيل مراجعته فيها مع قصور وقتها وأنه لا يمكن التأخير فيها، وعلى هذا تقضي المصلحة الشرعية بجواز ما قلناه من صحة قيام الإمامين بالأمر مع تباعدهما، ويحتمل ما وقع من الإجماع على المنع من ذلك على تقارب الأقطار.
قال المهدي -عليه السلام-: وقد حكي عن بعض أصحابنا، أنه حكي في حواشي تذكرة أبي طالب أنه يجوز إمامان وثلاثة وأربعة في وقت واحد في بلد واحد بإجماع أهل البيت -عليهم السلام-.
قال -عليه السلام-: الرواية فيها ضعف بل لا يبعد القطع بكذبها فإن كتب أهل البيت مشحونة بخلاف ذلك، ويتصل بما ذكرناه فوائد:
الفائدة الأولى: هل يجوز خلو الزمان عن إمام موجود وعن من يصلح للإمامة أولا؟(1/75)