وقد ذكر القاضي عبد لله بن حسن الدواري في موضعين، من تعليقه علي الشرح، أنه إذا اتفق رجلان في شرائط الإمامة، ولم يكن أحدهما أكمل من الآخر في شئ منها، ولا سبق بدعوة ولا عقد، فأولاهما بالإمامة أكثرهما فهماً، ثم أحلمهما، ثم أحسنهما خلقاً، ثم أفصحهما لساناً وأحسنهما عبارة، قال ذكر ذلك صاحب (الكافي)، ويعرف أنه أولى، إذا كان فيه خلة حميدة، سيما إذا كان الناس معهما أقرب إلى اتباعه، وإن كانت تلك الخلة من غير صفات الإمام وشرائط الإمامة، كأن يكون أحدهما أتم في خلقه وهيبته، وأحسن ثباتاً، وأسمى همة، وأوسط نسباً، وأكثر أباءً في العلم والفضل، وأكثر رحامة وبني عمومه لنصرته ونحو ذلك من الخلال التي معها اتساق الأمور له أبلغ من غيره، فمن كانت فيه فهو أولى بالإمامة، لكنه لو دعا غيره قبله أو عقد له كان هو الإمام ولم يقدح في صحة إمامته كون غيره أتم.
وقال في موضع: إذا كان أحد الصالحين للإمامة أكثر نسكاً، والآخر أكثر سياسة وأحسن تدبيراً، فإن الآبر في السياسة والتدبير أولى بالإمامة، إذ حاجة الأمة إلى حسن السياسة وزيادتها أمس من حاجتها إلى زيادة النسك.
قال: وعلى الجملة فالغرض بالإمامة صلاح المسلمين، وحسن الرعاية لهم، ومن كان ظُنَّ هذا فيه أغلب على العاقدين أن يعقدوا له، وعند القائلين بالدعوة لا يجوز لمن يعلم أن غيره أتم منه سياسة وصلاحاً للمسلمين أن يقوم بأمر الأمة فالعقد له باطل والدعوة تحتمل ذلك.(1/66)
الفائدة الثانية: إذا دعى داع كامل الشروط، وقام بأعباء الإمامة، ثم ظهر بعد ذلك أن غيره أفضل منه، وأكمل في خصالها، وأدخل في شرائطها، ما يكون الحكم في ذلك؟
اختلف فيه، فقيل: إنه يجب على الداعي تسليم الأمر للأفضل، وقال السيد أبو طالب: لا يجب ذلك، بل يستمر على حاله، وقد صار أفضل لتحمل أعباء الأمامة.
الفائدة الثالثة: قيل(القاضي عبد الله الدواري): كون الإمام أفضل بالنظر إلى جميع أهل البيت، فذلك مما لا سبيل إلى العلم به لانتشارهم في أقطار الأرض.
قال بعض المتكلمين: إنما يعتبر الأفضل منهم في القطر الذي فيه المكلف، قيل في البريد، وقيل: في مسافة ثلاثة أيام.
وقيل: في مبلغ علم المكلف، وليس عليه البحث عن الأفضل مع وجود الفاضل.
ومنها أن لا تسبق دعوته دعوة مجاب، وليس هذا من الشروط التي هي من صفات الإمام ونعوته الراجعة إليه، وإنما هو في الحقيقة يرجع إلى المنع، فلا ينبغي أن تعد من صفات الإمام التي يتوقف عليها صحة القيام، وإن كان من أصحابنا من يعده شرطاً، وينظمه في سلك تعداد الشروط، لفظاً وخطاً، وأبلغ من بسطه غاية البسط، في استيفاء ذكر هذا الشرط، وأوضح فيه المعنى والقصد المهدي -عليه السلام- فإنه قال:
من شروط الإمام أن يدعو في حال لم يكن قد تقدمه داع مجاب أجابه بعض الأمة فأما حيث قد تقدمه داع مجاب ودعا بعد ذلك فهو باغ.
إذا كان الأول كامل الشروط وقد أجيب، لا إذا لم يكن كاملاً أو كان كاملاً ولم يجبه من الأمة من ينتفع بإجابته بل لم يجبه أحدٌ أو أجابه من لا نفع في إجابته لقلته أو خموله، فلا حكم حينئذٍ بتقدم دعوته.(1/67)
قال: ومن عرف أنه إذا دعا أجابه من الناس من ينفع الله بإجابته، في إمضاء الأحكام الشرعية على الوجه المشروع وجبت عليه الدعوة حينئذٍ، وصارت دعوة الأول كأنها لم تكن إذا بطل نفعها في المقصود كما يبطل الوقف والتحبيس.
ببطلان نفع العين (في) المقصود، قال -رحمه الله تعالى-: لكن لا يجوز له الدعاء إلا بعد اليأس من إجابة الأول ونهوضه لا مع كون الإجابة مرجوة، وذكر أنه أخذ هذه المسألة من نصهم على جواز تنحي الإمام مع كون غيره أنهض، ولا وجه له إلا كون الغرض بالأنهض يكون أكمل، ولا شك أن المجاب يكون أنهض ممن لم يجب، ثم أورد على نفسه سؤالاً، وهو أنهم نصوا على جواز التنحي حينئذٍ لا وجوبه، فمن أين لك وجوبه؟
وأجاب: بأن هذا الحكم مما إذا حسن وجب، لأن الإمامة وجبت لمصلحة عامة، فإذا جاز له التنحي لتلك المصلحة وجب عليه لأن رعايةالمصلحة وهو وجوب الإمامة من الأصل.
قال: ولا يقال: إن التنحي المنصوص على جوازه يقع برضى المتنحي، فكيف يقاس عليه ما لم يقع برضاه، وهو دعوة غيره بعد دعوته.
قال: لأنه لا عبرة برضى المتنحي، إذا كان المتنحي قد وجب عليه لأن القصد رعاية مصلحة الأمة لا مصلحته وحده، والحق في ذلك لله تعالى لا له فلا عبرة برضاه، هذا حاصل ما ذكره في (الغيث)، وقد استوفى الكلام في هذا المعنى وأجاد فيه، وإن كان عند تدقيق النظر والمبالغة في النقادة بالرؤية الوقادة لا يخلو عن نظر. والله سبحانه أعلم. ثم لنعد إلى الكلام على أصل هذا الشرط:(1/68)
فنقول: الظاهر من مذهب الزيدية، وجمهور المعتزلة، وكثير من الأمة، أنه لا يصحُّ قيام إمامين معاً في وقت واحد، ولا يصحُّ قيام المتأخر منهما إن سبق أحدهما بالدعاء هكذا حكى القاضي عبد الله.
وفي (الغايات) نسبة هذا القول إلى المعتزلة جملة، وبعض الزيدية، قال القاضي: الخلاف في ذلك مع عباد بن سليمان، ومحمد بن سلاًّم الكوفي، وحكاه في (زوائد الإبانة)، عن كثير من السادة والعلماء.
وروى عن م بالله -عليه السلام- رواية مغمورة، وبه قال بعض الخوارج، وبه يقضى رأي سعد بن عبادة وأتباعه، حيث قالوا منا أمير ومنكم أمير.
وقال الناصر -عليه السلام- بصحته، إذا تباعدت الديار، ونسب في (الغايات) تجويز إمامين إلى الكرامية، ونسبه إلى القاسم بن علي العياني، -عليه السلام-، فإنه قال: إذا كان في قرية واحدة إمامان يدعوان إلى الله تعالى لكل منهما رعية، اختلفت رعيتهما، ولم يؤمن أن يوقعوا الوحشة بينهما فالواجب على من أحله ذلك المحل أن يكون بمن معه من الرعية في معزل يملك فيه تصرفهم، ولا يكون حيث يبلغ صاحبه وأصحابه اختلافهم ومضارهم. وما لا يؤمن من كونه بين مثلهم فإذا فعل ذلك ملك كل رعيته ودانت له مودته وصار كل بما يرضي الله تعالى.
قال المهدي -عليه السلام-: فصرَّح -عليه السلام- بجواز إمامين في وقت واحد، على الصورة المذكورة.
وقال الإمام يحيى في (الإنتصار): أما مع تقارب الأوطان والأماكن، فالإجماع منعقد من جهة الصدر الأول من الصحابة والعترة والفقهاء على المنع من ذلك.(1/69)
وأما مع تباعد الأوطان في الأقاليم البعيدة، والأمصار المتفاوتة في البعد، ففيه مذهبان: المنع وهو رأي العترة والمعتزلة، والأشعرية والخوارج، والفقهاء، ويحكى عن المؤيد أخراً لأن المقصود إقامة قانون الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا يحصل بواحد، وأمره في الأقاليم البعيدة ينفذ بإنفاذ الولاة والقضاة والكتب والرسل، كما كان في أزمنة الخلفاء، وتجويز الإمامين في وقت واحد، هو رأي المؤيد بالله -عليه السلام-.
أولاً: ومحكى عن الجاحظ، وعباد الصيمري، وحكاه الشيخ أبو القاسم في كتاب (المقالات) عن قوم من التابعين، وهو محكي عن الناصر، وهذا هو المختار.
قال -عليه السلام-: وعليه يحمل ما كان من الإمامين، الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين، والناصر عليهما السلام، لما كانا في الأماكن المتباعدة، والأقاليم المتباينة، فإن اتفق اجتماعهما وجب على المفضول تسليم الإمامة للأفضل منهما.
وحكي عن الناصر -عليه السلام- أنه إن لم يفعل فسق لأن غرضه الدنيا وإحراز الملك على الإنفراد، وهو خلاف الدين احتج المانعون بإجماع الصحابة، وبرد ما قالته الأنصار،حيث قال عمر بن الخطاب: سيفان في غمدٍ إذاً لا يصلحا[ن] وكان ذلك بمحضر جمع كثير من الصحابة، وبلغ الباقين ولم ينكره أحد فكان إجماعاً لأن المسألة قطعية، فقول البعض فيها بقول وسكوت الآخرين مع علمهم به يكون إجماعاً وصواباً، إذ لو لم يكن كذلك كانت الأمة قد أجمعت على الخطأ. هكذا قرره القاضي عبد الله بن حسن الدواري.(1/70)